إدريس عدار
الأشباه والنظائر موجودة في كل شيء، غير أنها تستحيل سرقة عندما يتعلق الأمر بالفكر. لا يمكن أن يقال إن هذا المفكر شبيه لآخر أو نظير له..المفكر حالة متفردة بصناعة المفهوم القابل للاستعمال..قد يكون نظيرا لمفكر آخر في القوة على تطويع وتطوير الأفكار، لكن أن يتشابه معه فهنا نكون أمام عمليات سطو واضحة..حتى لا يستشكل علينا “المتصيدون” فإن هذا لا يمنع التلاقي في أفكار إما لأنها اتخذت مسارا مقتربا وخلصت إلى نتائج متقاربة، وإما نتيجة للحدوس المعروفة..
“الأشباه والنظائر” معروف أنه من علوم الفقه يهتم بالفروع..غير أنه يمكن أن ينطبق على فروع “الاستباحة الفكرية”، الذين نرى بينهم هذا التطابق الكبير، فهمها اختلفوا يلتقون بالتساوي في الضلع والزوايا مثل “المثلثات” الهندسية، وفي عنوان “قلب الفكر”، ينقلبون على الموضوع ويحتفظون بالمنهج…كانوا تكفيريين وسيبقون تكفيريين..التكفير ليس موضوعا وإنما منهج..ولهذا ستجد “شيطان” التطرف والإقصاء والاستباحة متسرب مثل الماء في تربة الكثير من الحركات، التي غيرت شكلها بعد دخولها مجال السياسة.
إن لم تكن دارسا لن تصدق أن جماعة الإخوان المسلمين نشأت من أجل إعادة الخلافة، وسيعلق في ذهن غير المتخصص فقط تصريح صفوت حجازي، القيادي في الجماعة، الذي قام عقب الانتفاضة المصرية ضد مبارك التي التحقوا بها متأخرين بكثير، الذي قال فيه إن الخلافة هي نفسها الدولة المدنية..انقلاب بهلواني في المفاهيم، تلقفه فتح الله أرسلان، الرجل القوي في جماعة العدل والإحسان، ليقول إن الخلافة على منهاج النبوة تمثل الدولة المدنية..إن لم تكن دارسا لن تصدق أن حركة التوحيد والإصلاح، وجزؤها القوي الذي كان يسمى الجماعة الإسلامية، تربى على كتب ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب..سيقولون إنهم أيضا من علماء الإسلام..لكن ما الذي دفع الجماعة إلى اعتماد كتاب عودة المجوس لعبد الله الغريب، الاسم المستعار لزين العابدين سرور، والخطوط العريضة، لمحب الدين الخطيب، ضمن منهجها التربوي التعليمي، وهي كتابات واضحة في تكفير الآخر؟
هذا الانقلاب البهلواني من القميص والصندلة إلى البدلات وربطات العنق، هو انقلاب في الموضوع وليس في المنهج..ما قلناه ينطبق بشكل كبير على الانقلاب البهلواني لبعض شيوخ السلفية الجهادية..هذا الانتقال من النقيض إلى النقيض هو انتقال في الموضوع بينما المنهج ما زال محافظا على طراوته ورطانته.
الهروب من التكفير إلى التكفير عبر التكفير..
ليس في هذا التوصيف أي ظلم لهؤلاء..مادام منهجهم مقتبس من “ليس علينا في الأميين سبيل”..منهج قديم متواصل في الزمن، يستبيح الآخر، وينتهك كل الحرم..هذا المنهج جلي في الحركات التكفيرية، التي تقوم باستباحة الدم، وخفي في أصحاب الانقلاب البهلواني دعاة “التنوير بالتزوير”، الذين يستبيحون كل ما لدى الآخر ويقدموه للمتتبع بعد خلطه بكمية من الإنشاء على أنه فكرا جديدا.
لهؤلاء أشباه ونظائر في كثير من زوايا الكتابة..فلن يتخلص من كان “شغّالا” لدى الوهابية السرورية من نزوعه الإقصائي حتى لو تمنطق بحزام الفكر والمعرفة، لكنها معرفة برسم التعاقدات الجديدة..
قبل أيام كنت ضيفا على إحدى الإذاعات، التي منحتني حيزا زمنيا صغيرا، للتعليق إلى أحد الأشخاص من أصحاب الانقلاب البهلواني والتنوير بالتزوير، الذي تكلم كثيرا عن التطرف والتكفير..حسب ما عرفت أن صاحبنا “جهادي سابق”..طوال عشر دقائق ظل متمسكا بضرورة تنقية النصوص من مظاهر التطرف والتكفير، وقال إن حتى النص القرآني يتضمن آيات في هذا الشأن حتى خلته أنه سيقول ينبغي حذفها..فسألته: لو حذفناها سينتهي التطرف؟ غمغم ولم يفصح..
بعدها شاهدت ندوة نظمها منتدى الحداثة والديمقراطية، عبر تقنية الفيديو كونفرانس، بعنوان “التكفير في الإسلام…حقيقة أم إيديولوجيا؟”، استضاف فيها الباحث محمد غنام كل من أبو حفص وإدريس هاني..وأشير أنني معني هنا بظاهرة “أبو حفص” وبالتالي لن أمر على الباقي..قدم لنا المنتدى محمد عبد الوهاب رفيقي بصفته مفكرا وكاتبا وباحثا في الفكر و العلوم الإسلامية.
ما إن استمعت إلى هذه الندوة حتى قلت: يا ربي ما هاته الأشباه والنظائر..ما قاله ضيف الإذاعة هو نفسه ما قاله أبو حفص..الفرق بينهما أن الأول على ما يبدو كان يستظهر من ورقة..ولن أقول إن رفيقي يسرق على هاته المستويات..ربما نشاهدهم ذات يوم يتقاتلون من أجل توزيع كامل المسروقات، التي تم فيها استباحة الآخر..ولكن هؤلاء الهاربون من التكفير يمرون عبر قناته أو منهجه الذي هو “ليس علينا في الأميين سبيل”..
عتابي للمنتدى هو أنه انجر وراء الدعاية الإعلامية التي منحت الرجل أوصافا ليس لها مصاديق على أرض الواقع..الرجل مفكر، فما هي الأفكار التي أنتجها؟ وكاتب، فأين هي مؤلفاته؟ وباحثه، فأين هو إنتاجه العلمي؟
تابعته في أمور كثيرة وكان فيها معتديا على ملك الغير..قد يقع بعض المفكرين في تبني أفكار غيرهم دون الإشارة إليها، ولكن هؤلاء كيفما كان الحال يوجدون في جو الفكر، كمن يعيش في مزرعة ويأخذ فاكهة دون إذن، لكن المشكل فيمن يجعل من السرقة عنوانا لوجوده في عالم الأفكار.
كرر كلاما حول النصوص التراثية والفقهية..النص مجرد مشجب يعلق عليه فشله في القدرة على النظر السديد..أي نص هذا الذي لو أحرقناه لانتهى التطرف؟ هكذا بفهلوة نعثر على الترياق لسم الأفعى التكفيرية..
أبو حفص لا يتعب نفسه بحثا عن المفهوم. ما المقصود بالنص هنا؟ النص حكاية غريبة لا يدركها من يهرب عن طريق “الخطف”..في البداية كان الفعل وكان الكلام والمحكي..أبو حفص غير معني بالبحث عن الخيط الذي ربط هذا المحكي بحقيقته حتى أصبح نصا يحاكمه دون عدة منهجية..هذا النص جامد فمن حركه حتى أنتج المعنى؟ وكيف انتقل المعنى لدى الحامل؟ وكيف تحول المعنى إلى فكرة؟ وكيف تحولت الفكرة من القوة إلى الفعل؟ هي دورة كبيرة ومتكاملة، واستسهال الأمر وتعليق القتل بالنص مجرد هروب من “تعب الفهم”.
لا يوجد نص في العالم متفق عليه. وتوجد نصوص إباحية وأخرى تدعو إليها، ونصوص تحرض على العنف، ونصوص تمجد استهلاك المخدرات، إلخ..هل نحرق كل ذلك كي نمنع تأثير هذه النصوص في الشباب؟ وحتى لو قدرنا على ذلك فالنصوص موصولة بشجرة أنسابها..لها جذور في “الفعل”، أي ما قبل النشأة. قدر النصوص أن ترافقنا حتى تصبح جزءا منا..لا نهرب منها ولكن نستنطقها حتى تلد المعنى..لكن لدى التكفيري السلفي النص واحد..إما مقبول وإما مرفوض..هذا الرفض بالطريقة الأبي حفصية ناتج عن التحول على مستوى الموضوع مع الاحتفاظ بالمنهج.
هو إذن هروب من التكفير عبر منهج التكفير، القائم على انتهاك الحرمة الفكرية للآخر..نط سريعا كي يهرب من الحقيقة بإعلان البراءة من “حروب الردة”..ليس أبو حفص من يسميها أو يلغيها وهي تحولت من الواقع إلى النص..لكن الانتقال من النقيض إلى النقيض يحتاج “جواز” عبور معرفي وهو ما لم يتوفر في هذه الحالة..