نبه تقرير جديد الى انه رغم التحسن المؤقت الذي عرفته بعض المؤشرات المالية بفضل الشطر الأول من الزيادات في الأجور، الناتج عن اتفاق الحوار الاجتماعي الموقع في أبريل 2024، لا تزال أنظمة التقاعد الأساسية في المغرب تواجه اختلالات هيكلية عميقة تهدد استدامتها على المدى الطويل. هذا ما تؤكده مختلف التقارير الرسمية والقراءات الاقتصادية، في وقت لا يزال فيه ملف إصلاح التقاعد يراوح مكانه في ظل استمرار الخلافات الحادة بين الحكومة والنقابات الأكثر تمثيلية.
ففي ما يخص أنظمة التقاعد الخاصة بالقطاع العمومي، وعلى رأسها نظام المعاشات المدنية التابع للصندوق المغربي للتقاعد والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، ورغم التحسن الطفيف في حجم المساهمات بفعل الزيادة في الأجور، إلا أن هذه الأنظمة ما تزال تعاني من عجز هيكلي عميق، دون مؤشرات واضحة على تحسن قدرتها على الاستمرار مستقبلا. أما بالنسبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فإن فرع التقاعد طويل الأمد لا يزال يحافظ على رصيد إجمالي إيجابي، مستفيدا من الدينامية الديموغرافية التي يعرفها القطاع الخاص، لكن هذا التوازن المالي يبقى مهددا، خصوصا في ظل استمرار اعتماد احتساب منقوص لحقوق المؤمن لهم، وتخفيف شروط الولوج إلى المعاش أو استرجاع المساهمات، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على توازن النظام على المدى البعيد.
و جدد عدد من الخبراء والفاعلين الماليين الدعوة إلى ضرورة التعجيل بإصلاح شامل وعميق لأنظمة التقاعد، يرتكز على تحقيق توازن عادل في التسعير بين الحقوق والمساهمات، بما يقلص من الالتزامات غير المغطاة ويضمن الاستدامة. غير أن هذا الإصلاح، الذي تأجل مرارا منذ بداية النقاش حوله خلال العقد الماضي، يصطدم مرة أخرى بجدار الرفض النقابي، حيث تصر المركزيات النقابية الكبرى على رفض أي إصلاح من شأنه أن يمس الحقوق المكتسبة للمنخرطين، سواء من خلال الرفع من سن التقاعد أو تقليص المعاشات.
وشكل إصلاح التقاعد واحدا من أبرز الملفات العالقة في أجندة الحوار الاجتماعي، إذ سبق للحكومات المتعاقبة أن حاولت تمريره على مراحل، دون أن تنجح في بناء توافق سياسي واجتماعي حول صيغته النهائية. ففي سنة 2016، أقدمت الحكومة آنذاك على أول إصلاح جزئي لنظام المعاشات المدنية، شمل الرفع من سن الإحالة على التقاعد تدريجيا إلى 63 سنة، ورفع نسبة الاقتطاعات، واعتماد آلية جديدة لاحتساب المعاشات، وهو ما أثار آنذاك موجة رفض واسعة في صفوف الموظفين والنقابات.
ومع تراكم التقارير المحذرة من قرب نفاد احتياطيات الصناديق التقاعدية، وارتفاع كلفة الاستمرار في تمويل العجز، يعود الملف من جديد إلى واجهة النقاش العمومي، وسط ضغوط متزايدة على الحكومة من أجل المرور إلى مرحلة الإصلاح الهيكلي. ومع ذلك، لا تزال الفجوة واسعة بين الأطراف، فالنقابات تطالب بمقاربة تشاركية تضمن الحفاظ على المكتسبات وتحقيق العدالة الاجتماعية، فيما ترى الحكومة أن التأجيل لم يعد ممكنا وأن الإصلاح الشامل ضرورة ملحة.
وتتجه الحكومة، بحسب مصادر متطابقة، إلى طرح تصور جديد للإصلاح خلال الدورة الخريفية المقبلة، يرتكز على توحيد الأنظمة في قطبين رئيسيين: قطب عمومي وقطب خاص، واعتماد نظام نقاط يربط قيمة المعاش بعدد السنوات والمساهمات، إضافة إلى دراسة إمكانية إدماج بعض الفئات غير المشمولة حاليا بالتغطية التقاعدية ضمن النظام الوطني. لكن نجاح هذا الإصلاح يبقى مرهونا بمدى قدرة الدولة على إقناع الفرقاء الاجتماعيين بجدواه وعدالته، وهو ما لم يتحقق بعد في ظل هشاشة الثقة المتبادلة.
وبين الحاجة الاقتصادية الملحة للإصلاح، وتمسك النقابات بالدفاع عن الحقوق الاجتماعية، يبدو أن أزمة التقاعد في المغرب ستظل مفتوحة على المجهول، ما لم تنجح الحكومة في بناء توافق وطني حقيقي حول صيغة عادلة ومتوازنة تنقذ صناديق التقاعد من الانهيار وتؤسس لمنظومة عادلة ومستدامة للأجيال القادمة.