قدمت وزارة الداخلية أمام مجلس النواب واحدة من أوسع حزم التعديلات على المنظومة الانتخابية منذ عقد من الزمن، في خطوة وصفتها الحكومة بأنها تروم “تخليق الحياة السياسية وتعزيز نزاهة الاستحقاقات المقبلة”، لكنها في المقابل تحمل طابعاً ضبطياً صارماً يوسع من دائرة الرقابة والعقوبات، خصوصاً في ما يتعلق باستعمال الوسائط الرقمية والذكاء الاصطناعي في الحملات الانتخابية. وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، وخلال تقديمه مشاريع القوانين الثلاثة أمام لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة، أكد أن هذه المشاريع تأتي في إطار “تصور شمولي” يرمي إلى رفع مستوى الثقة في العملية الانتخابية وصيانة سمعة المؤسسات المنتخبة داخلياً وخارجياً، مع الحرص على مواكبة التحولات التكنولوجية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الممارسة السياسية الحديثة.
المشاريع التي تم تقديمها تشمل تعديل القانون التنظيمي لمجلس النواب (27.11)، وتعديل القانون التنظيمي للأحزاب السياسية (29.11)، وتعديل القانون المتعلق باللوائح الانتخابية واستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري خلال الحملات (57.11). وهي تعديلات تُعيد النظر في عدد من القواعد الأساسية التي تحكم المشاركة السياسية، من شروط الترشح وتدبير الحملات إلى طرق التسجيل في اللوائح الانتخابية وآليات تمويل الأحزاب. وقد حرص الوزير على التأكيد أن الهدف هو “تحصين الاختيار الديمقراطي وضمان انتخابات نزيهة وشفافة”، غير أن مضمون النصوص يكشف أيضاً عن توجه نحو ضبط أشد للحياة السياسية والإعلامية خلال الفترات الانتخابية.
في ما يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية، يقترح مشروع القانون التنظيمي رقم 54.25 رفع عدد أعضاء التصريح بتأسيس الحزب إلى 12 عضواً يمثلون كل جهات المملكة، بينهم أربع نساء على الأقل، مع رفع عدد الأعضاء المؤسسين إلى 2000 عضو، على ألا تقل نسبة النساء والشباب عن 20 في المائة لكل فئة. هذا التوجه يعكس رغبة في جعل العمل الحزبي أكثر جدية ومؤسساتية، كما يوسع دائرة الفئات الممنوعة من تأسيس الأحزاب أو الانخراط فيها لتشمل موظفي وأطر وزارة الداخلية، ترسيخاً لمبدأ حياد الإدارة الترابية. كما يقترح المشروع رفع سقف التبرعات الفردية إلى 800 ألف درهم سنوياً لكل متبرع، مع السماح للأحزاب بإنشاء شركات اقتصادية مملوكة لها بالكامل، شريطة أن يكون نشاطها مرتبطاً بالاتصال أو التوثيق أو الطباعة السياسية، وهو ما يمثل تحوّلاً مهماً في مصادر تمويل الأحزاب وتدبير مواردها.
أما مشروع القانون رقم 55.25 الخاص باللوائح الانتخابية، فيسعى إلى تطوير الإطار القانوني المنظّم لعمليات التسجيل ونقل القيد وحصر اللوائح. ويحدد النص السن الأدنى للتسجيل في 18 سنة شمسية، مع مأسسة التسجيل الإلكتروني عبر الإنترنت داخل المغرب وخارجه. ويُلزم المشروع كل ناخب يغيّر مقر إقامته الفعلية بتقديم طلب لنقل قيده إلى الجماعة الجديدة، لتفادي ظاهرة “الانتقال الموسمي” التي تُستغل سياسياً خلال الانتخابات. ويعتبر هذا المشروع أن “سلامة اللوائح الانتخابية هي المدخل الأساسي لانتخابات نزيهة وشفافة”، وهو ما يعكس حرص الوزارة على إحكام ضبط القاعدة الانتخابية التي تُبنى عليها نتائج الاستحقاقات.
أكثر ما أثار النقاش في هذه التعديلات هو إدراج مقتضيات تُجرّم صراحة استعمال شبكات التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي في نشر استطلاعات الرأي أو الدعاية الانتخابية خلال الفترات المحظورة قانوناً. فالمشروع يرفع العقوبات الحبسية والغرامات المالية ضد المخالفين، مع مضاعفتها في حال ارتكابها من طرف شخص معنوي كحزب أو مؤسسة إعلامية. كما نص على عقوبات حبسية تتراوح بين سنتين وخمس سنوات وغرامة مالية بين 50 ألف و100 ألف درهم لكل من يبث أو ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الذكاء الاصطناعي أخباراً أو صوراً زائفة بقصد التشكيك في نزاهة الانتخابات أو التأثير في إرادة الناخبين. وتشمل العقوبة أيضاً كل من ساهم أو شارك أو أعاد نشر تلك المواد، في ما اعتبره الوزير خطوة لحماية العملية الانتخابية من التضليل الرقمي والمحتوى المزيف الذي يمكن أن يزعزع الثقة في المؤسسات.
في مشروع القانون التنظيمي رقم 53.25 الخاص بمجلس النواب، اتجهت الحكومة نحو مقاربة زجرية أكثر صرامة. فقد تم تشديد العقوبات على الجرائم الانتخابية، ورفع الغرامات إلى الضعف على الأقل، مع تحويل بعض الجنح إلى جنايات مثل اقتحام مكاتب التصويت أو الاستيلاء على صناديق الاقتراع. كما تم التنصيص على منع الترشح لكل شخص صدر في حقه حكم نهائي بالحبس أو تم عزله من مهمة انتدابية، مع تمديد فترة المنع إلى مدتين انتدابيتين كاملتين. ويُمنع أيضاً موظفو وأطر وزارة الداخلية من الترشح في الدوائر التي اشتغلوا بها خلال السنوات الأربع السابقة لانتهاء مهامهم، ضماناً لحياد الإدارة الترابية.
ولتعزيز الشفافية والمراقبة، أعلن لفتيت عن اعتماد منصة إلكترونية جديدة لإيداع الترشيحات والوكالات، تتيح للمترشحين تقديم ملفاتهم رقمياً والحصول على وصل مؤقت إلكتروني فور الإيداع. كما تم تمديد الأجل القانوني لإيداع حسابات الحملة الانتخابية لدى المجلس الأعلى للحسابات من 60 إلى 90 يوماً، على أن يتم فحصها عبر منصة رقمية خاصة، ما يُعد خطوة مهمة في مسار الرقمنة وتعزيز المراقبة المالية على الحملات الانتخابية.
ورغم الطابع الزجري الواضح في هذه الإصلاحات، فإنها حملت أيضاً عناصر تحفيزية تهدف إلى تشجيع مشاركة النساء والشباب في الحياة السياسية. فقد تم اقتراح تخصيص الدوائر الجهوية حصرياً للنساء، ما سيحافظ على تمثيليتهن في حال إعادة الانتخابات. أما بالنسبة للشباب، فقد تم اعتماد نظام دعم مالي عمومي للوائح التي تضم مترشحين تقل أعمارهم عن 35 سنة، بحيث يغطي هذا الدعم ما يصل إلى 75 في المائة من مصاريف الحملة الانتخابية، سواء في الدوائر المحلية أو الجهوية. هذه الخطوة تهدف إلى معالجة العائق المالي الذي كثيراً ما يحول دون مشاركة الشباب في المنافسة الانتخابية.
وتجمع المشاريع الثلاثة على ملامح مرحلة جديدة تتجه نحو ضبط سياسي وتقني أكبر، عبر توسيع العقوبات وتقليص الهوامش الرمادية في القيد والترشح، وإرساء رقابة مشددة على الفضاء الرقمي الذي أصبح ـ حسب تعبير الوزير ـ “إحدى أخطر بوابات التأثير غير المشروع على المسار الانتخابي”. وبين من يرى في هذه النصوص تحصيناً للممارسة الديمقراطية من الانحرافات، ومن يعتبرها تضييقاً على حرية التعبير والعمل الحزبي، يبدو أن النقاش البرلماني المرتقب سيكشف حجم التوافق أو الخلاف حول هذه التعديلات الجوهرية، التي ستؤطر استحقاقات 2026، وترسم ملامح جديدة للمشهد السياسي المغربي في السنوات القادمة.






