طارق ضرار
في المغرب.. لدينا قطاع صحي يشبه تماما ذاك المريض الذي يدخل المستعجلات وهو يتنفس بصعوبة… لكنه يخبر الممرضة بثقة فلسفية “لا تقلقي، إنها فقط صحتي ليست على ما يرام.” .. هكذا، ببساطة، نعترف أن الصحة نفسها تحتاج إلى صحة، وأن المستشفى محتاج لمستشفى، والطبيب محتاج لطبيب، وربما الوزارة نفسها محتاجة لوزارة أخرى تجلس معها في جلسة علاج نفسي جماعي.
لنبدأ من الطبيب، الذي درس سبع سنوات، وتدرب سنتين، وتخرج ليكتشف أن ما يحتاجه فعلا ليس سماعة جديدة، بل طبيب خاص يعالجه من الإجهاد، وفقر الدم المزمن الناتج عن ليلة كاملة في المداومة بأربعين مريضا وجوج “تلفونات من الإدارة”… الطبيب في المغرب لا يحتاج فقط لطبيب نفسي… بل يحتاج لدورة تكوينية حول “كيف تبتسم للمريض رغم أنك لم تنم منذ 36 ساعة”، أو “كيف تتعامل مع المواطن الذي يريد شهادة طبية لمرض ليس فيه.. و يريد دواء لا يعنيه ..
ثم نصل إلى الممرض، ذاك العمود الفقري الحقيقي للمنظومة. لكن ماذا تفعل بعمود فقري يعاني من الديسك؟ الممرض بدوره يحتاج إلى ممرض آخر يدرّس له التمريض، ثم إلى مسعف ينعشه كلما سقط من التعب في أحد الممرات. وفي وقت الفراغ يحتاج لمدرب رياضي يشرح له كيف يركض بين مصلحة وأخرى، ولأخصائي صوتيات يعلمه كيف يصرخ على الطبيب بلا عياء…
وأما الإدارة الصحية… فهنا تصل الكوميديا إلى ذروتها. وزارة الصحة تحتاج إلى وزارة أخرى للمراقبة، ووزارة ثالثة لكي تشرح للثانية ماذا تراقب، ووزارة رابعة تتكفل بشرح التعليمات، ووزارة خامسة تحتفظ بالوثائق في الأرشيف. وفي النهاية، تتفاجأ أن الوزارة الأصلية لم تفهم ماذا يحدث أصلا. ربما لو جلسوا جميعا في قاعة واحدة وتبادلوا القصص لاكتشفوا أنهم يعملون في القطاع نفسه منذ البداية.
وفي المستشفيات، تجد مقولة منقوشة على الجدران بحبر الشكايات: “الصحة تحتاج إلى صحة.” مريض ينتظر سريرا يحتاج إلى سرير، وسرير يحتاج إلى برغي، وبرغي يحتاج إلى ميزانية، والميزانية تحتاج إلى وثيقة، والوثيقة تحتاج إلى توقيع، والتوقيع يحتاج إلى مسؤول، والمسؤول يحتاج إلى عطلة… وهكذا يكتشف المريض أن صحته أسهل علاجا من علاج الورق.
وفي بعض المراكز الصحية، تجد الطبيب يعمل بلا أدوات، مثل ساحر على خشبة مسرح نحسبه يقلب الأوراق بحثًا عن عصى سحرية بدل السماعة. المريض يسأل فين السكانير؟” والموظف يجيبه راه جا في الطريق، ولكن الطريق باقي ما تصلاحاتش… ومع كل هذا، تظل الصحة في المغرب تقاوم تقاوم الخصاص، تقاوم الاكتظاظ، تقاوم العطالة التقنية للأجهزة، تقاوم الأعطاب البشرية، وأحيانا، تقاوم نفسها.
وفي النهاية، يبقى السؤال الفلسفي الذي يليق بجامعة هارفارد وليس بباب مستشفى جهوي من سيعالج صحة تحتاج إلى صحة؟ ومن سيصلح قطاعا يحتاج إلى قطاع؟ ومن يجرؤ على تشخيص مرض يصيب المنظومة كلها؟
ربما نحتاج إلى طبيب كبير… كبير جدا… طبيب لا يعالج الأجساد فقط، بل يعالج فكرة الصحة ذاتها، ويكتب لها وصفة طبية فيها “راحة لمدة خمس سنوات، تجديد المعدات، إعادة التكوين، وتغيير شامل للنظام الغذائي الإداري. إلى أن يحدث ذلك، سنظل نقولها بكل بساطة مغربية صافية الصحة… تحتاج إلى صحة.






