كشف تقرير حديث صادر عن “مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية” عن مؤشرات مقلقة لعودة الإرهاب إلى القارة الإفريقية، لكن هذه المرة عبر وسائل أكثر تطوراً، تشمل استخدام الطائرات المسيّرة، والارتباط بشبكات إجرامية ومالية دولية، مما يطرح تحديات متزايدة أمام دول المنطقة. وبينما يسجل شمال إفريقيا تراجعاً نسبياً في عدد الهجمات والوفيات، فإن الصورة في مناطق الساحل وحوض بحيرة تشاد والصومال تبدو أكثر سوداوية، في ظل تصاعد العنف، واتساع رقعة سيطرة الجماعات المتطرفة.
في شمال إفريقيا، سجل التقرير تراجعاً ملحوظاً في نشاط الجماعات الإرهابية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث استقر عدد الوفيات في حدود 30 حالة سنوياً. ويُعزى هذا الانخفاض إلى الجهود الأمنية المكثفة، والتنسيق الإقليمي الفعال، الذي تقوده عدة دول على رأسها المغرب. فقد تمكنت الرباط من تطوير مقاربة متعددة الأبعاد لمحاربة الإرهاب، تجمع بين اليقظة الأمنية، ومكافحة الفكر المتطرف، والتعاون الدولي. وتُعد تجربة المغرب نموذجاً يحتذى به في المنطقة، حيث نجحت الأجهزة الأمنية المغربية، ممثلة في المكتب المركزي للأبحاث القضائية، في تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية قبل تنفيذ مخططاتها، كما عززت الرباط تعاونها الاستخباراتي مع دول الساحل الأوروبي وإفريقيا جنوب الصحراء.
ولا يخفى على المراقبين أن المقاربة المغربية تنطلق من قناعة راسخة بأن محاربة الإرهاب لا تقتصر على البعد الأمني فقط، بل تشمل أيضاً الجوانب الدينية والتربوية والاجتماعية. فالمغرب يضطلع بدور محوري في تأطير الحقل الديني داخل إفريقيا، من خلال معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين، الذي استقبل مئات الطلبة من دول إفريقية، بهدف نشر إسلام وسطي معتدل، ومواجهة الفكر التكفيري عند منبعه. كما أن الرباط عملت على دعم مشاريع التنمية البشرية في عدد من الدول الإفريقية، إيماناً منها بأن القضاء على التهميش الاقتصادي والاجتماعي هو أحد المفاتيح الأساسية لمكافحة الإرهاب.
غير أن التحديات الأمنية لا تزال قائمة، بل وتتفاقم في مناطق مثل الساحل، حيث ارتفع عدد الضحايا بأكثر من 60 في المائة مقارنة بالفترة الممتدة من 2020 إلى 2022. وتفيد أرقام التقرير بأن أكثر من 150 ألف شخص لقوا حتفهم نتيجة الهجمات الإرهابية خلال العقد الماضي، منهم أكثر من 22 ألف شخص في السنة الماضية وحدها. وتمثل منطقة الساحل، لا سيما مالي وبوركينا فاسو والنيجر، البؤرة الأكثر دموية، حيث تسيطر جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” ومكوناتها، مثل “أنصار الدين” و”جبهة تحرير ماسينا”، على أراضٍ شاسعة تفوق مساحتها 950 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة دولة مثل تنزانيا.
وفي ظل الانقلابات العسكرية المتتالية في بلدان الساحل، تقلّص هامش العمل الإعلامي والحقوقي، ما صعّب رصد أنشطة الجماعات الإرهابية بشكل دقيق، وزاد من عزلتها الدولية. كما تعززت قدرات هذه التنظيمات، التي باتت تستخدم العبوات الناسفة بشكل متزايد، فضلاً عن الطائرات المسيّرة، وحتى بعض الصواريخ الباليستية في حالات نادرة، كما هو الحال مع “حركة الشباب” في الصومال، التي تطورت قدراتها نتيجة تنسيقها مع الحوثيين في اليمن، وبلغت إيراداتها المالية السنوية حوالي 200 مليون دولار.
في المقابل، شكّل المغرب في السنوات الأخيرة محوراً أساسياً ضمن الجهود الدولية الرامية لمواجهة هذا التصاعد الإرهابي. وعلى سبيل المثال، استضافت الرباط عدة مؤتمرات دولية حول مكافحة الإرهاب، بما فيها اجتماعات التحالف الدولي ضد داعش، واحتضنت مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، مما يؤكد الاعتراف الدولي بالدور الريادي للمغرب في هذا المجال. كما انخرطت المملكة في تنسيق أمني وثيق مع بلدان غرب إفريقيا، من خلال تقديم الدعم التقني والتدريب، فضلاً عن تبادل المعلومات الاستخباراتية.
وبلغة الأرقام، فإن الاستراتيجية المغربية أسهمت في تفكيك أكثر من 210 خلية إرهابية منذ سنة 2002، وهو رقم يعكس فعالية المقاربة الوقائية المعتمدة، والتي تعتمد على الرصد المبكر والتدخل الحاسم. ومن الناحية الدبلوماسية، ما فتئ المغرب يدعو إلى ضرورة اعتماد مقاربة تنموية شاملة في إفريقيا، لمعالجة جذور التطرف العنيف، بدل الاقتصار على الحلول الأمنية الظرفية.
وعليه، فإن التقرير الأخير يعيد التأكيد على أن خطر الإرهاب في إفريقيا لم ينتهِ، بل يعيد التموقع بأشكال أكثر دهاءً وتطورا. وفي هذا السياق، يبرز الدور المغربي كحصن أمني واستراتيجي لا غنى عنه، ليس فقط لحماية حدوده، بل أيضاً للمساهمة في أمن واستقرار القارة ككل، عبر نموذج استباقي يجمع بين الحزم الأمني والحكمة الدبلوماسية والاستثمار في الإنسان.