أعاد قرار المحكمة الدستورية الأخير، القاضي بعدم دستورية عدد كبير من مواد قانون المسطرة المدنية، النقاش السياسي والحقوقي في المغرب إلى نقطة الصفر، وسلط الضوء على أزمة منهجية أعمق في عملية التشريع داخل الحكومة. هذا القرار، الذي اعتُبر من قبل العديد من الفاعلين الحقوقيين والسياسيين “انتصاراً للدستور”، لم يكن مجرد حكم تقني على نص قانوني، بل شكّل لحظة فاصلة تعكس تراكماً في الأعطاب التشريعية، وتغوّلاً في السلطة التنفيذية، وتهميشاً للمجتمع المدني، وإقصاءً منهجياً لكل الآراء المخالفة داخل وخارج البرلمان.
في هذا السياق، خرجت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان ببيان حاد اللهجة، عبّرت فيه عن ارتياحها لقرار المحكمة الدستورية، واعتبرته خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تكريس دولة الحق والقانون، لكنها في الوقت نفسه وجّهت اتهامات واضحة ومباشرة إلى وزير العدل، محملة إياه مسؤولية “الإخفاقات التشريعية المتتالية”، وداعية إلى تقييم شامل لأدائه، ليس فقط على ضوء الدستور، بل أيضاً استناداً إلى التوجيهات الملكية والمبادئ الدستورية المرتبطة بالديمقراطية التشاركية.
الرابطة لم تكتفِ بذلك، بل اتهمت الحكومة، بشكل صريح، بتكريس منهجية تشريعية تُقصي الفاعلين المدنيين، وتغيب عنها الشفافية والمقاربة التشاركية، وهو ما يشكل بحسبها خرقاً واضحاً للفصلين 12 و13 من الدستور المغربي، اللذين ينصان على ضرورة إشراك المجتمع المدني في إعداد وتتبع السياسات العمومية، ومراعاة مقترحاته في مسارات الإصلاح.
وفي واحدة من أقوى فقرات بيانها المفتوح، طالبت الرابطة رئيس الحكومة بممارسة صلاحياته الدستورية، وعدم ترك المجال مفتوحاً أمام ما سمته “النهج السلطوي والانحرافات التشريعية”، مؤكدة أن احترام التوجيهات الملكية والدستور والمواثيق الدولية هو السبيل الوحيد نحو إصلاح حقيقي ومستدام. كما نبهت وزير العدل إلى أن استمرار تعطيل ورش إصلاح مدونة الأسرة يُعد “تحدياً صارخاً” للتوجيهات الملكية، خاصة في ظل وجود إجماع واسع حول هذا الإصلاح بين مختلف مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات والهيئات المهنية، معتبرة أن أي تأخير إضافي أو محاولة للالتفاف على هذا الورش الإصلاحي يمس جوهر الاستحقاق الحقوقي الوطني.
البيان نفسه عبّر عن رفض قاطع لبعض المقتضيات الواردة في مشروعي القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، التي تسعى بحسب الرابطة إلى حرمان الجمعيات من حقها في تقديم شكايات مرتبطة بقضايا الفساد ونهب المال العام، ووصفت هذه المقتضيات بأنها تمثل انتهاكاً مباشراً للدستور، وخاصة الفصل 12، الذي ينص صراحة على دور الجمعيات في تتبع وتقييم السياسات العمومية، كما أنها تتناقض بشكل فاضح مع المادة 13 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تنص على إشراك المجتمع المدني في تعزيز الشفافية ومكافحة الإفلات من العقاب. بناءً عليه، طالبت الرابطة بسحب هذه المقتضيات القانونية، التي تراها مقيّدة لدور الجمعيات المدنية في محاربة الفساد.
قرار المحكمة الدستورية، الذي شكّل صدمة سياسية وتشريعية، نص بشكل صريح على عدم دستورية 35 مادة من القانون المتعلق بالمسطرة المدنية، معتبرًا أن هذه المواد تمس بمبدأ الأمن القضائي، وتُخلّ بتكافؤ وسائل الدفاع بين أطراف النزاع، وتمسّ باستقلالية السلطة القضائية، كما أن بعضها يعتمد في بناء أحكامه على الشك والتخمين لا على اليقين، وهو ما يشكل في حد ذاته انتهاكاً لمبادئ المحاكمة العادلة.
ومن أبرز المواد التي أسقطتها المحكمة الدستورية نجد المادة 17 (الفقرة الأولى)، والمادة 84 (المقطع الأخير من الفقرة الرابعة)، والمادة 90 (الفقرة الأخيرة)، والمادة 107 (الفقرة الأخيرة)، والمادة 364 (الفقرة الأخيرة)، إلى جانب مواد أخرى كالـ288، و339 (الفقرة الثانية)، و408، و410 (في الفقرتين الأوليين منهما)، وهي مواد خوّلت للوزير المكلف بالعدل سلطات تمس باستقلالية القضاء، من خلال إمكانية تقديم طلبات إحالة بسبب الاشتباه في تجاوز القضاة لسلطاتهم أو بدعوى وجود “تشكك مشروع”، ما اعتبرته المحكمة تدخلاً من السلطة التنفيذية في اختصاصات القضاء.
قرار المحكمة أشار كذلك إلى أن هناك مقتضيات أخرى تحيل على الفقرة الرابعة من المادة 84، وهي أيضاً غير مطابقة للدستور، وشملت هذه المقتضيات مواد من قبيل 97، 101، 103، 105، 123، 127، 173، 196، 204، 229، 323، 334، 352، 355، 357، 361، 386، 500، بالإضافة إلى المواد 115، 138، 185، 201، 312، و439. وقد اعتبرت المحكمة أن هذه المواد كلها تخالف بشكل جلي أحكام الوثيقة الدستورية.
وعلى الرغم من حجم الانتقادات الواسعة، فقد استكمل مشروع قانون المسطرة المدنية مساره التشريعي، بعدما تمت المصادقة عليه بشكل نهائي في مجلس المستشارين بتاريخ 8 يوليوز الماضي، غير أن رئيس مجلس النواب قرر في ما بعد إحالته على المحكمة الدستورية، كما ينص على ذلك الفصل 132 من الدستور، الذي يمنح لرئيس المجلس حق الإحالة، ويترتب عن هذه الخطوة وقف سريان أجل تنفيذ القانون إلى حين صدور قرار المحكمة.
في هذا الصدد، اعتبر المحامي والفاعل الحقوقي محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، أن قرار المحكمة الدستورية هو بمثابة انتصار للدستور المغربي، ورسالة واضحة ضد من يحاولون تسييس التشريع أو توجيهه وفق حسابات حزبية أو سلطوية، ورفض واضح لمحاولات ترك التشريع عرضة “لمزاجية نخبة سياسية لا ترى في التدبير العمومي إلا وسيلة لحماية مصالحها ومصالح زبنائها”، حسب تعبيره. وأضاف الغلوسي أن القرار الدستوري شكّل رداً مباشراً على محاولات تدخل وزير العدل في اختصاصات القضاء، مطالباً بإحالة مشروع قانون المسطرة الجنائية بدوره على المحكمة الدستورية، خاصة أن المادتين 3 و7 منه تشكلان خرقاً مماثلاً لما ورد في المسطرة المدنية، وتمسّ باستقلال القضاء.
وأكد الغلوسي أن المادة 25 من النظام الأساسي للقضاة تنص بوضوح على أن قضاة النيابة العامة يُوضعون تحت سلطة وإشراف ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، غير أن المادة 3 من مشروع قانون المسطرة الجنائية توسّع هذا الإشراف لتجعل رئيس النيابة العامة برمته خاضعًا لسلطة المفتشيتين العامتين للداخلية والمالية، في سابقة اعتبرها الغلوسي تجسيدًا لما وصفه بـ”الانحراف التشريعي الخطير”.
ما بين ترحيب حقوقي حذر، وانتقادات سياسية لاذعة، وتنديدات من المجتمع المدني، يبدو أن القرار الأخير للمحكمة الدستورية سيكون له ما بعده، خصوصاً في ظل تصاعد الأصوات المطالبة بإعادة النظر في مسارات التشريع برمتها، ووضع حد لتدخل السلطة التنفيذية في مجالات اختصاص مؤسسات أخرى. ويبدو أن المغرب مقبل على مرحلة دقيقة تتطلب إعادة التوازن بين السلطات، واحترام المبادئ التي جاء بها دستور 2011، ليس فقط كشعارات، بل كممارسات يومية في صياغة السياسات والقوانين.