طارق ضرار
الشوارع، بعد طول انتظار، تزيَّنت فجأة هذا الصيف بطبقة إسفلت جديدة، لامعة مثل ابتسامة مرشح في موسم انتخابي، رائحة الزفت تعبق في الأجواء كأنها بخور الديمقراطية. لا تسألوا عن السبب، فمنتخبوكم الأعزاء قرروا أن يمنحوكم هدية موسمية، قبل أن تمنحهم وزارة الداخلية “هدية” أخرى من نوع مختلف تمامًا…
في كل أحياء المملكة، تسمع أصوات آلات الرص، ورائحة الإسفلت الساخن تطاردك من الزقاق إلى الزقاق. مشهد يذكّرك بأن الميزانية، التي ظلت راقدة في أدراج الجماعات، قررت أخيرًا أن تخرج للنور. طبعًا، ليس صدفة أن “نشاط” المنتخبين يتزامن مع صيف لاهب، حيث العطل، والمناسبات، والكاميرات التي تصوّر “المنجزات” من أجل الصفحات الفيسبوكية والمطبوعات الانتخابية.
لكن مهلاً… وزارة الداخلية هذه المرة لا تضحك كثيرًا. الأخبار تقول إن تقارير المراقبة بدأت تُعدّ، والمفتشون يتحركون مثل النسور في عين بعض الرؤساء. الملفات تتكدس، والأرقام تتسرب، والأسئلة المحرجة تُطرح: كم كلف المتر المربع؟ لماذا الإسفلت يتشقق قبل أن يبرد؟ ومن صاحب الشركة “المحظوظة” التي فازت بالصفقة دون منافسة تُذكر؟
في الكواليس، يهمس البعض أن تعبيد الشوارع في الصيف ليس بريئًا. فهناك من يفضّل أن تُسوى الحفر قبل أن تُسوى الحسابات. وهناك من يعتقد أن لون الزفت الأسود يخفي لون الدفاتر المالية الرمادية. ووزارة الداخلية، التي طالما مارست دور الحكم، تتهيأ هذه المرة للعب دور “حارس المرمى” أمام تسديدات الفساد المباشرة.
لكن، يا سادة، لنكن واضحين: تعبيد الشوارع ليس هو بناء الإنسان. قد تمنحك طريقًا ناعمة لتمشي عليها، لكنك ما زلت تحمل أفكارًا مهترئة، ومدارس تتسرب منها الأدمغة كما يتسرب الماء من سقف مهمل. الشوارع المعبدة لا تعلم أبناءنا التفكير النقدي، ولا تزرع فيهم حب المعرفة، ولا تبني مكتبة عامة، ولا توفر مسرحًا أو فضاءً ثقافيًا.
بناء الإنسان يحتاج إسفلتًا من نوع آخر: أفكار صلبة، تعليم محترم، إعلام حر، وسياسات ثقافية تُشبه طموحات الناس لا طموحات الصفقات. أما ما يحدث الآن فهو بالضبط كأن تهدي أحدهم حذاءً فاخرًا بينما قدماه غارقتان في الطين.
والغريب أن نفس المنتخبين الذين يفاخرون بإنجاز “الطريق الجديدة” هم أنفسهم من يعجزون عن إصلاح إنارة عمومية منذ شهور، أو عن تهيئة قاعة رياضية للأطفال، أو حتى عن توفير مكتبة صغيرة في الحي. وكأن مهمتهم في الحياة هي تحويل الجماعات إلى شركات تعبيد متنقلة.
في النهاية، قد يأتي يوم، قريب جدًا، تخرج فيه بيانات الداخلية لتفضح بالأرقام كم كلّف “الإنجاز”، وكم بقي في الجيب، ومن الذي أدار الروليت حتى توقفت عند اسم شركة معينة. وحينها سيكتشف المواطن أن بعض الشوارع كانت ممرًا قصيرًا بين ميزانية الجماعة وجيوب خاصة، أكثر من كونها طريقًا نحو التنمية.
إلى ذلك الحين، استمتعوا برائحة الإسفلت الطازج… فربما تختفي قريبًا مع أول شتاء.