الحقيقة كاملة أصبحت مختبئة وراء فاكهة حمراء اسمها الفراولة. كبر حجمها لا يمكن أن يخفي مأساة النسوة اللواتي يشتغلن في حقولها. وراء الأوراق الخضراء تكمن حياة سوداء..رحلة عذاب يومي تأمينا لحياة لا أمان فيها. أما “التأمين” فمجرد خرافة سمع حديثا عنها قومنا. أحيانا أو حتما لا نجد أحسن من ماركس لفهم جشع الرأسمال. فليس هو وحده من يمثل الفساد ولكنه يفسد كل ما حوله..وتبقى قصة الموازنة بين العمل والحاجة، حاجة ضرورية لضبط “العمل” وإلا أصبح استغلالا. في كتابه المستقبل يتحدث آل غور، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، عن التحالف الايديولوجي بين الرأسمالية والديمقراطية، الذي انحدر فدخلت قواعد السوق الديمقراطية.
هو يعتقد أنه لو بقي الانفصال قائما لبقيت الديمقراطية بخير، لكن هناك لبس حول ميلاد كل منهما وحول شجرة الأنساب أو أنهما مولودان من زواج غريب؟ ولكن ما يهمنا هنا هو دخول قواعد السوق للسيطرة على سوق الديمقراطية. هذه الأخيرة تتضمن أدوات الاختيار وجزء بسيطا من أدوات الرقابة. لكن في الاختيار يكمن الشيطان، لأن المنتخب ديمقراطيا يمثل من صرف عليه كي ينجح لا من صوّت عليه كي ينجح.
لقد أكل السوق الديمقراطية. وهذه القاعدة تنطبق على أي سوق وعلى أي ديمقراطية. أخفى السوق وراءه الرقابة وأخفت الرقابة وجود الجائحة، وبعد أن اشتد الضغط انفجرت.
سمعت تاجرا كبيرا من تجار الفراولة يقول: نحن أبرياء والفراولة بريئة والصندوق بريء والحقل بريء والمسؤول هن العاملات. طبعا هو ابن السوق. والسوق لا عقل ولا قلب ولا روح ولا وجه له. السوق مصلحة. والإنسان عند ابن السوق مجرد رقم ينتج السلعة أو يستهلكها. وقد يدفعونه لاستهلاك ما لا يريد وما لا ضرورة له أو بتعبير رايمون أرون في كتابه “مجتمع الاستهلاك”: لقد التقت الندرة بالوفرة فتزوجا فولدا “الحاجة”..وضاع بينهما الاكتفاء طبعا.
أي مسؤولية لعاملة بدوية؟ هل توفرت لها كل الظروف للعمل وفق الشرط الصحي لزمن الجائحة؟ أي زمن أصلا تعيش فيه؟ من علمها أن “الموت وحدة”؟ كيف تقنع العاملات بالابتعاد الجسدي في أمكنة لا تتسع لذلك؟ كيف تطلب من عاملة ب”جوج فرنك” أن توفر أدوات الحماية؟ ومن قال إنهن لم يكلفن أنفسهن عناء الهروب من الفيروس؟ لكن من حملهن في شاحنات؟ ومن وضعهن في أمكنة هي عنوان انتقال الجائحة؟
ليس لنا سوى أن نردد مع جيل جيلالة:
ايه يا بابا عدي
قالوا عدي
واش فيك ما يعدي
يا ودي
بصلة و زيتونة في لقراب
وراس مالك الصدق و الفقر
وحالك يشيب لغراب
ولا مقال بالوصف يعبر
وديما مبكر
فالحمد مكثر
على خبيزة مرمدة فتراب.
قبل أن تعود صاحبة الخبزة المرمدة فالتراب إلى “براكة رقّعها المعطي” بتعبير سعيد المغربي، كانت الفاكهة الحمراء شربت دمها الأحمر ورمتها في خندق ضحايا حرب الفيروس. في معركة ربحها “صاحب الشكارة” لأن كثيرا من الناس تركوا مواقعهم خيانة لنا جميعا، الذين واجهنا الكائن الغريب القاتل ولو بالاعتصام في بيوتنا.