لا يكف الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري عن إثارة الجدل في بلاده بمراجعات فكرية توصف بالمفاجئة والصادمة، من أبرزها تصريحات في عام 2015 اعتبر فيها أن الغرب هو من صنع العنف وزرع بذور الحرب على الإسلام السياسي عندما حاول فرض أفكار غريبة على منطقة الشرق الأوسط.
ويندد الفيلسوف الفرنسي -الذي يعد امتدادا لفلاسفة ما بعد الحداثة في فرنسا ويعرف بغزارة مؤلفاته التي تعد بالعشرات- بعدم كفاءة الحكومات الأوروبية في التعامل مع جائحة كورونا، ويدعو لقراءة كتب الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين الذي اشتهر بتأملاته الشخصية والتزامه العزلة حتى وفاته عام 1592م، وكذلك مشاهدة أفلام المخرج السينمائي الفرنسي جاك تاتي الذي قدم أفلاما روائية مهمة فازت بجوائز عالمية، مستعرضا موقفه من هذا الحجر الصحي الإلزامي.
متع فلسفية
وفي حوار بمجلة لوبوان الفرنسية، يوصي أونفري بقراءة أعمال الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس -الذي يصنف كواحد من “أفضل خمسة أباطرة” حكموا الإمبراطورية الرومانية من 96 إلى 180م قبل عصر الاضطرابات وسقوط الإمبراطورية- واشتهر بتأملاته التي كتبها “إلى نفسه” ودوّنها بينما كانت بلاده تخوض حربا شرسة لم تمنعه من كتابة أفكاره التي أصبحت من أهم كتب الفلسفة الرواقية، رغم أنه لم يرد أن تخرج للعامة، ويجسد أوريليوس حلم الفيلسوف أفلاطون في أن يكون الحاكم فيلسوفا.
ويوصي أونفري كذلك بقراءة أعمال الفيلسوف والأديب اللاتيني لوكيوس سينيكا (توفي 65م) الذي كتب تسع مسرحيات تراجيدية تجسد فلسفته الأخلاقية والرواقية، وتخوض شخصياتها صراعات درامية بين العقل والعاطفة.
ويقول الفيلسوف الفرنسي إن هؤلاء الكتاب العظام يمكن اعتبارهم فلاسفة الكفاح ضد الشدائد بامتياز؛ فهم يقدّمون نصائح لمحاربة القلق والخوف والكرب والشيخوخة والمرض والمعاناة والخيانة والموت بالطبع.
ويُصنف أونفري من وجوه “اليسار المعادي لليبرالية”، وقدم في كتاباته أعمال الفلاسفة الكبار، معتبرا أن الفلسفة فن للوجود وغايتها هي السعادة عبر المتع الحسية والفكرية، ويحمل كتابه “تاريخ مضاد للفلسفة” حسا تحرريا يسعى من خلاله لتبسيط الفلسفة للعامة بدلا من احتكارها من قبل النخب الأكاديمية والمتخصصة، رافعا شعار “الفلسفة للجميع”.
التعليم والأطفال
وبخصوص ما يجب تعليمه للأطفال في إطار تنظيم التعليم عن بعد، ذكر أونفري أنه ينبغي تعليمهم كيفية القراءة والكتابة والحساب، وبالتالي التحليل والتفكير واكتساب العقل النقدي، وهي أشياء تعتبر رجعية في نظر “العدميين” الذين قدموا أنفسهم لسنوات أنهم تقدميون.
وعلاوة على ذلك، يمكن أيضا الاستفادة من هذا النهج التعليمي للقيام بما لم تفعله المدرسة حقا وهو تعليم الفن، الذي يعد مدرسة حقيقية للحساسية، بحسب تصريحات أونفري للمجلة الفرنسية.
ويتابع أونفري أنه يمكن تعليم القصائد وقراءة الشعر للأطفال، وكذلك القصص، وجعلهم يكتشفون المسرح أو الأوبرا والنصوص والكتيبات، ومشاهد العروض الذكية.
الفطرة والملل
وبخصوص الشعور بالملل خلال هذه الفترة، قال أونفري إنه لطالما تجاهل مفهوم الملل، لأن الكتب شكلت بالنسبة إليه وسيلة للخروج من جميع المآزق التي واجهتها.
واقتبس الفيلسوف الفرنسي مقولة الأديب والفيلسوف السياسي الفرنسي مونتسكيو حول الفضيلة العلاجية للقراءة حيث قال “لم أشعر أبدا بحزن لم تبدده ساعة من القراءة”. لذلك، يعتبر أونفري أنه غير قادر على تخيل شعور شخص آخر بالملل؛ فالملل يعني عدم التعامل مع أي شيء سوى نفسك، في الوقت الذي يكون فيه العالم شاسعا خارج ذواتنا.
وفيما يتعلق بالنقاش الجاري حول قبول الأشخاص الحرمان من الحرية دون تذمر، والخشية من غرامات عدم الامتثال لقواعد الحجر الصحي أو الخوف من الموت، علّق أونفري بأن ذلك يعود أساسا إلى الفطرة السليمة.
اعلان
وتجدر الإشارة إلى أن أونفري سبق أن أكد في حوار صحفي سابق يوم 28 يناير/كانون الثاني أن الصين لم تكن لتتخذ قرارا بإغلاق مدينة تضم الملايين من الناس دون أسباب جدية ودون الاعتراف بوجود تهديد حقيقي.
انحدار أوروبا
وعما إذا كانت جائحة فيروس كورونا المستجد ستشكل مرحلة جديدة في “انهيار الحضارة اليهودية المسيحية” بحسب التحليل الذي قدمه في كتابه “الانحطاط”، أفاد أونفري بأن هذا الفيروس يندرج ضمن حركة الانهيار.
وتظهر الجائحة بحسب الفيلسوف الفرنسي عدم كفاءة رئيس الدولة والحكومة، فضلا عن عدم تماسك خطابات ماكرون وتناقضها (مثل الدعوة للبقاء في المنزل والذهاب للتصويت)، مما يؤدي لعدم الثقة في الرئيس الفرنسي الذي لا يطيعه أحد.
ويتابع أونفري القول إن أيديولوجية أوروبا آخذة في الانهيار، وذلك نتيجة للسياسة الليبرالية التي تبرر وضع كبار السن في ممرات المستشفيات وتركهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، كما أن الإلقاء بالفريق الطبي في “ساحة الحرب”، والعجز عن توفير أقنعة لهم أو حتى معقم كحولي لرد الأذى عنهم، لا ينذر بالسقوط ولا يعجل به وإنما يظهر بشكل كامل الطرق التي يسلكها هذا السقوط.
ويتابع قائلا إن وسائل الإعلام ترصد الموت على مدار الساعة، وتضع الفرنسيين أمام هذه المعضلة الوجودية، ولا يتعلق الأمر بمواجهة الموت بل بمواجهة العجز في مثل هذا الزمان، وفي عدم القدرة على تقديم إضافة في هذا المجال وفي مجالات أخرى.
انهيار العولمة
وفي حديثه عن إرسال الصين مليون قناع في شكل مساعدات، وكيف أظهر ذلك ضعف الأوروبيين الشديد، أوضح أونفري أن ذلك يشبه سقوط الاتحاد السوفياتي عندما توهم الغرب لأكثر من نصف قرن نجاح الإمبراطورية الماركسية اللينينية.
اعلان
وفي الحقيقة، يظهر الوباء كيف أن أوروبا -التي كانت قوة اقتصادية عالمية لمدة ربع قرن- بات من المحتمل أن تلتحق بصفوف الإمبراطوريات العالمية الكبرى التي كان مآلها السقوط، وذلك بسبب عجزها عن صنع الأقنعة للفرق الطبية التي تستقبل ضحايا الوباء.
وتعتبر إيطاليا، التي تضم نحو 60 مليون نسمة جزءا من الاتحاد الأوروبي، وهي تسجل عدد وفيات يفوق العدد الذي سجلته الصين بسبب فيروس كورونا. باختصار شديد، يقول الفيلسوف “أصبحت أوروبا العالم الثالث الجديد”.
لقد تصور الجميع، بحسب الفيلسوف الفرنسي، أن الأزمة القادمة ستكون اقتصادية بالأساس، لكن ما جعل العالم ينهار هو فيروس. وتوضيحا لسبب سوء تقدير هذه النهاية، أشار أونفري إلى أن الفيروس مرتبط باقتصاد العولمة.
وشرح أونفري رأيه مبينا أن الاقتصاد الليبرالي جعل من الربح غاية جميع السياسات ومنتهاها، وتساءل لماذا ننتج أقنعة ونخزنها؟ معتبرا أن ذلك جعل الخدمات الصحية حكرا على الأثرياء الذي يستطيعون توفير الأموال للتمتع بها.
ويتابع “لا يمكن إنكار حقيقة أن الفيروس عرّى الخيارات الاقتصادية، وبالتالي السياسة المتبعة في فرنسا انطلاقا من فاليري جيسكار ديستان رئيس الجمهورية الفرنسية من 1974 حتى 1981، إلى فرانسوا ميتران، وصولا إلى إيمانويل ماكرون”.
تجاهل العلم
في حديثه عن تجاهل الخطاب العلمي، أكد أونفري أن مصلح “العلم” لا ينبغي أن يمثل حجة تمنع أي تفكير نقدي.
وبخصوص إمكانية أن تتسبب هذه الأزمة في انفجار مدني وأخلاقي في المجتمعات الأوربية، قال أونفري أن هذه الأزمة سيعقبها تبعات ثقيلة، لكنه يؤمن بظهور غضب متزايد.
وفي الوقت الحاضر، هناك تحفظ عن التعبير عن هذا الغضب بسبب بداية الحجر، والخصام الفكري والمعنوي، والمعلومات المجزأة. لكن هذه الأزمة لن تعيد من تلقاء نفسها إحياء الروح المدنية التي دمرتها بشكل نهائي خمسون عاما من الدعاية العامة في فرنسا، بحسب الفيلسوف الفرنسي.
وفي الختام، وحول وجود أحداث تاريخية سابقة يمكن أن تلهم الأوروبيين لإعادة بناء أنفسهم، أشار أونفري إلى أنه لا فائدة من البحث في الماضي عن أسباب لفهم الحاضر، فالحاضر يعتبر كافيا بالنسبة لأولئك الذين يعملون ذكاءهم وعقولهم وتفكيرهم وفكرهم النقدي.