محمد فارس
يَعود مفهومَا (المواطن والوطن) إلى الواجهة فجأة بعد جائحة (ڤَيْروس كورونا)، وبدأ رجلُ الشارع يتساءل عن دَور الأثرياء الذين أثْروا واغتَنوا من خيرات هذه الأرض، ومن هذا الوطن الذي يعيش اليوم ظروفًا قاهرة، ويهدّده داءٌ قاتِل، ومن أثريائه مَن كانت لهم أيادٍ بيضاء، ومنهم مَن التزمَ الصّمتَ، وكأنّ الأمر لا يعنيه، وما أكثرهم؛ لكن منهم من تبرَّع وبذَل ما استطاع من المال والمتاع للتّدليل على الرّوح الوطنية، ولبيان ما للوطن من قيمة تعلو على سائر القيم، وكيف لا، وقد جعل الإسلامُ حبَّ الوطن من الإيمان! لكن من هو المواطن، وما هو الوطن يا ترى؟ يقال: واطَنَ القومَ، بمعنى عاش معهم في وطن واحد، ومنه المواطنُ، وهو الذي يتمتّع بالحقوق التي يتمتّع بها أبناءُ أمّته.. قال [آلان]: [الطّاعةُ والمقاومة ضروريتان لكلّ مواطن؛ الأولى ضرورية لحفظ سلامة المجتمع، والثّانية ضرورية لصيانة الكرامة وبقائها.].. وما هو الوطن؟ الوطن بالمعنى العام، مَنْزِل الإقامة؛ والوطن الأصلي هو المكان الذي وُلِدَ به الإنسانُ أو نشأ فيه.. والوطن بالمعنى الخاص، هو البيئة الرّوحية التي تتّجه إليها عواطفُ الإنسان القومية، ويتميز الوطن عن الأمة والدولة بعامل وجداني خاص، وهو الارتباط بالأرض وتقديسِها، لاشتمالها على قبور الأجداد الذين ضحّوا بأرواحهم في سبيل هذا الوطن وعزّتِه، وكرامته، وحرّيته، وبقائه؛ فماذا صنعنا نحن لهذا الوطن، وبماذا ضحّينا في سبيله؟ ذاك هو السؤال!
ولـمّا كان الوطن مقدّسًا، فإن قدسيتَه تستوجب البذْلَ، والعطاءَ بسخاء، وسنورد هَهُنا مواقفَ لبعض أهل البذْل ذكرهمُ التاريخُ، وأشاد بمواقفهم الجليلة تُجاه أوطانهم: يذْكرُ التاريخُ رجلاً كريمًا اشتهر بسخائه وجميلِ عطائه، وهو الصّحابي الجليل [عبد الرّحمان بن عوف]، وزّعَ سبعمائة راحلة على أهل (المدينة) وما حَوْلَها في مهرجان بِرٍّ عظيم؛ وفي حادثة أخرى، امتنع عن الحجّ، وأعطى نفقاتِه لمسلم فقير مُعْدَم، فأُعْجِبَ به رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم، فلو كان حاجٌّ في يومنا هذا قد فعل ما فعله [عبد الرحمان] لاعتَبره أهلُ فتاوى التّكفير، كافرًا، إذ كيف يترك الحجَّ ويَهب مصاريفَه لرجل مسْلم فقير! وهذا [عثمان بن عفّان] رضي الله عنه، رأى جيشَ المسلمين واقفا بلا زاد، ولا عتاد، والوطن مهدَّد في عام (العُسْرة) ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينادي: [مَن يجهِّز هؤلاء وله الجنّة؟]؛ فصاح [عثمانُ]: [أنا لها يا رسول الله]، وجهّزَ جيشَ العسرة بِنِياق وخيول وأسلحة وزادٍ وعتاد.. وهذا الأديب، والمفكّر الرّوسي، الذي كان من أثرياء وطنه، يوزّع أموالَه، وأملاكَه، وأراضيه على فقراء وطنه.. وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم، يتبرّع بأرض [فدَك] وقد كانت مساحتُها تَعدِل مساحةَ إقليم (الشّاون)، وهبها النّبيُّ الكريم ليعْتاش منها فقراءُ المسلمين صدقةً منه لأمّته.. وهذا جلالة الملك [محمّد السادس] نصره الله كان في طليعة المتصدِّقين، ومن أوائل الـمُتبرِّعين، مشاركًا أمّتَه في محنتها، فسار على هديه أثرياءُ آخرون وتبرّعوا بما استطاعوا في هذه المحنة التي مرّ منها الوطنُ في هذه الأيام العصيبة.. أمّا آخرون، فقد صمتوا صمْتَ القبور، وآخرون، وهم الانتهازيون، فقد رفعوا الأسعار، وخزّنوا المواد ليستثمروا مأساةَ الوطن، ويغْنموا من بؤس، وذُعْرِ، وشقاء المسحوقين، والإسلامُ عندهم هو مجرّد صلاةٍ وصوم فقط، حتى قال فيهم عزّ وجلّ في كتابه العزيز: [إنّما السّبيل على الّذين يَسْتأذنونكَ وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف] صدق الله العظيم.
يقول [ابن الأثير] نقلاً عن [سبط ابن الجوزي] إنّ الخليفةَ العادل [الظّاهر بأمر الله، أبو النّصر]، لـمّا دخل إلى الخزائن قال له خادمٌ: [كانت في أيام آبائكَ تمتلئ]، فردّ عليه [أبو النّصر]: [ما جُعِلتِ الخزائنُ لتمتلئ، بل تُفْرغ، وتُنْفَقُ في سبيل الله، فإنّ الجمعَ شُغْل التّجار].. وخزائن أمّتنا الآن امتلأتْ بفضل الله، وبحكمة جلالة الملك، ولكن من سيشرف على الإنفاق حتى يُصرفَ كلُّ درهم في مكانه؟ فلابدّ من أمناء، ومن وطنيين صادقوا الله والوطن.. فهناك أُسرٌ فقيرة إذا لم يخرجْ ربُّ الأسرة للعمل في الشارع، عانى أطفالُه من الجوع.. وهناك أُسرٌ لن تجدَ ما تؤدّي به ثمنَ الكراء، فيكون مآلها الشارع والمبيت في العراء.. وهناك مقرّاتُ عملٍ ومطاعم ومقاهٍ أُقْفِلتْ، وبقيتْ أسرٌ بلا زاد، وبلا مصادر عيش.. وهناك فقراء، وأُجراء، وعجزة، فهل طالتْهم هذه المساعدات دون تلكُّؤ، ومن غير عراقيل مفتعلة؟ سؤال! وهناك مرضى يعانون من أمراض مزمنة، وهم عاجزون وقد بلغوا من العمر عُتيًا، وتعويضاتهم لا تفي بما تتطلّبه حاجاتُهم وأمراضهم.. جازى الله جلالةَ الملك، وقد كان كريمًا وسخيًا، ولابدّ من أُمناء ينفقون هذه الأموال بما يرضي الله.. نعم؛ لقد أُعطيتْ تعليمات بعدم الزّيادة في الأسعار، ولكنّ تجّارًا ألهبوا الأسعارَ، وهذه فرصتُهم، فمن يثنيهم، ويحدّ من جَشعِهم غيْر إجراءات صارمة وحاسمة حفاظًا على مصالح الرّعية.. لكنْ أين هم أكلةُ السّحت؟ أين هم المدافعون عن المنكر والفساد؟ برز أصحابُ الاحتكار، ومشيعو إشاعات ومغتنمو الفرص، ياه! لكن اليوم، يُعْرفُ الرِّجال، أبطالُ الكرم، والجود، والتّضحيات وصدق الشّاعر: [جازى الله الشدائدَ كلَّ خيرٍ * عرفتُ بها عدوّي من صديقي]..