زهرة عز
أجد نفسي عاجزة عن التعبير عن فعل غريب تجاوزت قسوته كلّ الكلمات. فعل شديد الغرابة يحملني الى ما وراء كلّ المسميات، تنصّل القانون للقانون نفسه وارتدى الظلم جبّة العدل، وبين تقوى مزعومة تحجب رؤية رجل دولة للديموقراطية وحقوق الإنسان، وخرق سافر للضوابط القانونية والحقوقية، ضاعت مؤسسات الدولة الحديثة، وضاعت معها هيبة السياسة ومعانيها السامية، والتي يبدو أن وزيرا رفيع المستوى في حجم الأستاذ المحامي الرميد لا يؤمن بها أصلا، مثلما لا يؤمن بالمواطنة الكاملة لمستخدمته التي حرمها طيلة عقود من حقها في التسجيل في صندوق الضمان الاجتماعي..
أبحث عن مسمّى لما أنجبه تواطؤ الباطل مع الظلم، وسوء الدين وشكلية التدين، فلم أجد سوى جمال طيبة وصبر الفقيدة جميلة التي كشفت بموتها قناع الزيف وعرّت الباطل في زمن توظيف الدين في كل شيء إلا في الأخلاق الرفيعة. كانت جميلة بتفانيها ملاذا لحيرتي وارتباكي. صوت جميلة من وراء الثرى يصرخ بأن حبل الكذب قصير ، وأن الجرم مهما طواه الزمن والنسيان وتواطأ على كتم صوته المنصب والجاه والجبروت، فلا بد أن ينجلي كشمس النهار، مهما طال الليل.
يملؤني الغيظ من مغيبي الضمير ،الذين يسكنهم الغرور معتقدين قدرته على التضليل، متناسين أنه لايمكن لزيفه أن يستمر للأبد، فآجلا أم عاجلا تنهار كل قواعده، مظهرة وجهه المقيت. أبحث عن كلمات لا أجدها تستطيع اختراق كآبة الوضع وصقيع الظلم. كلمات أصرخ بها تهدّ بنيان الزّيف، فلا أجد غير دموع أسرة جميلة عزاء لنا جميعا في زمن ضاقت الدنيا بنا بما رحبت، لما قرر الشعب يوما أن يصوت لجماعة دينية فشلت أن تكون حزبا سياسياً حقيقياً، كما فشلت في تخليق الحياة العامة التي ازدادت فسادا وظلما. فهل هناك أبشع من محام يمثل القانون في أسمى درجاته، وزير العدل سابقاً ووزير حقوق الإنسان ينتهك حقوق موظفته المتواضعة ويرمي بها إلى مكبات التجاهل حتى بعد مماتها؟. . وحتى حينما افتضح أمره سارع إلى تعويض أسرة الفقيدة مادياً، فهل استطاع بتعويضه أن يعوض الدولة وصندوق الضمان الاجتماعي.؟ وهل يستطيع أن يعوض صورة دولة الحق والقانون، التي هو أحد رجالاتها يا حسرة.؟
جميلة لم تقل كلمتها الأخيرة بعد، بعدما أوكلت التاريخ محامياً عنها، وبعدما صفعنا موتها بفضحه كل التناقضات والمفارقات العجيبة لمسؤول، من المفروض فيه أن يكون القدوة والمثل الأعلى في تطبيق القانون ، أليس الهدف السامي لمنظومة القانون هو إقامة العدل ورفع الظلم ؟ أية دولة ممكن أن نتصور قيامها مع جماعة/ حزب تعتبر أن مرجعيتها هي السماء في زمن البؤس السياسي؟
ما رأي الوزير في فعل أبسط ما يقال عنه أنه لا أخلاقي ولا قانوني ولا حقوقي؟ وهو الذي يدعى كما حزبه تمثيل هذه المستويات كلها من مستويات الدولة الحديثة، وكيف يمكنه تفسير حرمانه لجميلة من الانتساب لصندوق الضمان الاجتماعي طيلة 24 سنة مدة خدمتها بمكتبه . وهذا أبسط حقوقها عليه؟؟
قطعا لا يمكن للظلم أن يموت مع ضحيّته، وها هي جميلة من وراء قبرها تصرخ بمأساتها التي صعقتنا وصعقت عائلتها الفقيرة، وها هو المحام بكل جبروته يحاول مستميتا إيجاد طرق ملتوية لإسكات صوت الحق. وكان عرضه الهزيل بمنح صكّ الغفران وفتح باب الكعبة لأمها أردأ حلّ تفتق عليه ذهنه. وكأن هبة الحج ستجبر الضرر وتجبّ فعلته السوداء.
إن ما قام به وزير الحقوق عن سبق إصرار ونية دفعني إلى تصور ما يتجاوز المنطق. جعلني ألمس عن قرب كل الزيف والظلم وأرى بوضوح كل الخراب قديمه وجديده والقادم في زمن العدالة والتنمية.
أرى الوزير صاعدا إلى الهاوية، محلّقا بكلّ تناقضاته وقد سقط عاريا بلا قناعات أو مبادئ، أو خطابات تستره، أراه عاريا تلدغه كل عقارب ساعات العمل التي تكبدتها جميلة في خدمته طيلة 24 سنة. أراه يتحسّر بعد فوات الأوان على إخلاصها وصبرها الجميل الذي لم يشفع لها عنده. قد يعوض أسرتها ويحصل على رضاها، لكنه حتما لن يحصل على رضا دولة أعطته سمو المناصب ورفيعها، ولن يحصل على رضا مجتمع اكتشف بعد حين أنه كان ضحية زيف الشعارات باسم الدين وباسم الأخلاق تارة، وباسم الحقوق والعدالة تارة أخرى.
ربما تطلّقه وزارة الحقوق طلقة بائنة وتحيله إلى محكمة الضمير والقانون الذي يعلو ولا يعلا عليه ،،ومازال صوت الحقوق بين الأنام ينوح ، هناك يد عبثية تعجنني،،
في الأخير لا أملك سوى الدعاء لروح جميلة بالسكينة والسلام ولأمها تعازي الصادقة ..