نور الدين الحاتمي
لماذا فريد الأنصاري ؟ ولماذا نستدعيه الآن ونخرجه من قبره ؟ وقد انتقل إلى ربه منذ ما يقرب من عقد من الزمان. أعتقد أن الحاجة اليوم إلى هذا الشيخ حاجة ملحة، وأن العودة إليه، لاستعادة نصوصه وكتاباته حول الحركة الإسلامية بالخصوص ضرورية وأكيدة.
الشيخ فريد الأنصاري رحمة الله عليه، كان واحدا من أهم أعلام المغرب على مستوى العلوم الشرعية، ومن خيرة من أنجبهم التراب المغربي، فقد كان عالما “حقيقيا” وكان أصوليا “حقيقيا” أيضا، وعودة بسيطة إلى مخلفاته، العلمية والفكرية، تؤكد أنه كان كذلك بالفعل، وقد كان “شاطبيا” حقيقا بأن يحمل لقبه، بخلاف المدعين من “رجال الدين” المزورين، الذين تُخلع عليهم الألقاب بكل سهولة، وبمجانية، وهم صفر في العلوم، صفر في الأفكار، ولم يكتبوا بحثا واحدا يتضمن اجتهادا ما في قضية ما يؤكد ما يدعونه من العلم و”العالمية”، وكل ما في حوزتهم تقليد في تقليد.
فريد الأنصاري “شاطبي” حقيقي، وكتابه عن المصطلح عند الامام الشاطبي دليل على فهمه واستيعابه وهضمه له، وطريقة تعامله مع النصوص التعامل “العلمي”، حسب مراتبها الاعتبارية، كما شرحها في كتابه “البيان الدعوي” أثناء تناوله لموضوع السياسة الشرعية، حيث كتب ما معناه أن ما كان مقصودا أصالة من الشارع أو ما كان منتميا إلى الأصول الاعتقادية والعملية فقد ذكره القرآن، والقرآن المكي بالذات ـ كما عند بعضهم ـ ونص عليه، وقد يترك أمر تفصيله للسنة لتشرحه وتُفصل فيه ، و أن ما ورد النص عليه في القرآن، فهو من قبيل الكليات والأصول، وما ورد ذكره في السنة فقط، فهو من قبيل الفروع والجزئيات، وموضوع السياسة الشرعية من هذا النوع حيث لم تذكر لا في الكتاب ولا في السنة مما يدل على كونها من جنس الفقهيات والفروع بالأحرى، وليست كما ذهب مثقفو الحركات الإسلامية إلى اعتبارها من الأصول والاركان وهو الموقف الناتج عن كونهم يخلطون بين “الإمامة” وبين الحكم بما أنزل الله أي بين ما هو من جنس الفقهيات وبين ما هو من أصول الاعتقاد، والفرق بينهما شاسع و واسع.
أقول إن طريقة تعامله مع هذه القضية، وبهذا الأسلوب الأصولي في هذا الكتاب ، دليل آخر على تمكنه من هذا العلم وتفننه فيه، وهو العلم الذي يذهب جل المشتغلين به أو عليه اليوم أن ” علماءه ” المعاصرين ليس لهم إلا نصيب منه اللهم إلا تلك المصطلحات التي يقولون فيها ويعيدون القول، وأنهم ليس بمكانتهم استثمار هذه الأصول و”تنزيلها ” على الواقع ـ كما يحلو لهم القول ـ وخلو الساحة من هذه الإنتاجات، دليل واضح على صدق هذه الدعوى.
نستدعي الشيخ فريد الأنصاري اليوم، لأننا في الحاجة، بل في مسيس الحاجة إليه، وإلى نقده “الثوري” الذي مارسه على الحركة الإسلامية في المغرب، وهو بلا شك نقد ذاتي صدر من داخلها وقوّمها بذات الخطاب الذي تُسوقه للناس، وتحاول ضبطهم به وتأطيرهم عليه.
نستدعي هذا الشيخ، لأن نقده مفيد لنا، خاصة وأنه كان نقدا “حقيقيا” لحركة، طالما لم تحتفل ولم تصغ إلا لمن يُطبل لها، وينسب لها فضائل ليست لها، ولأن كتاباته في الموضوع كانت بمثابة صرخة قوية ومدوية للتنبيه، ولفت الانتباه، إلى الحالة المزرية التي أصبحت عليها الحركة الإسلامية، وهي تحسب أنها تحرز تقدما وانتصارا، وقد كان دوي صرخته قويا إلى درجة أنه أسمع جميع المعنيين من “قيادات” هذه الجماعات، وآلمها وأقضّ مضجعها، وجعلها تنصت إليه بغضب وسخط.
لقد كان الشيخ فريد الأنصاري واضحا أشد الوضوح، وهو يمارس ذلك النقد القوي والشديد للحركة الإسلامية في المغرب، فنبه في كتابه “الفجور السياسي” إلى القراءة المغلوطة لهذه الحركة لواقعها، والتقدير السيء له، إذ تظن أنها حينما تقارن نفسها بالأحزاب السياسية التي استنفذت أغراضها و انتهت، وتجد أنها أكثر منها عددا وأقدر منها على تعبئة الناس، وهم يقدرون بمئات الآلاف، تعتقد أنها على شيء، والواقع بخلاف هذا، حيث أنها يتعين عليها أن تقارن نفسها بما أسماه الشيخ ب” حزب الفجور السياسي”، و حسب الشيخ، فإن الفرق بين الفجور والفجور “السياسي” أن هذا الأخير يتخذ شكل”إيديولوجيا” وتوضع له استراتيجيا من قبل الدول أو مؤسساتها للتصدي للتطرف وتجفيف منابعه، والذي ليس في واقع الأمرـ كما يقول ـ إلا تجفيفا للتدين نفسه.
أقول يتعين عليها أن تقارن نفسها بحزب “الفجور السياسي” هذا، لتكف عن اعتقاد أنها في وضع المنتصر والذي “مسح الطاولة” بعبارة الجابري، وترى الواقع ـ كما هو في واقعه وليس كما تتخيله أو تحب أن تراه ـ فتتأكد أنها تتراجع و تُمنى بخسائر فادحة وكبيرة.
وينبه الشيخ فريد إلى قضية مهمة، بل غاية في الأهمية، وهي أن هذه الجماعات تسير على النقيض من الغاية الاساسية للدين، والتي هي واحدة من أهم كلياته، أي قضية التعبد، وبالذات الصلاة ، التي تقدم عليها هذه الحركات ما هو في حكم الوسائل، أي الموقف السياسي، كما ينبه إلى ان هذا الحركة أو تلك، إنما البوصلة عندها هي السياسة، إلى درجة أن دعوتها إلى الصلاة دعوة إلى السياسة، و أن هذه الأخيرة، هي التي تنتج نوع التدين وتحدد شكله وصورته، الأمر الذي أوقعها في محظور شرعي كبير، يتعلق بإحلال الجزئي محل الكلي كما يقول هو.
كما يشير الشيخ فريد إلى أن الحركة الإسلامية في المغرب ـ كما في باقي أقطار العالم الإسلامي وأصقاعه ـ تلعب خارج حلبتها، وتخوض صراعا في معركة غلط وبأسلحة غلط، وأنها انقلبت على وظيفتها الأصلية التي كانت مبررة لوجودها، أي تجديد علاقة الخلق بخالقهم، علاقة الناس مع ربهم، أي إقامة التدين الذي هو واحد من أعظم وأكبر كليات هذا الدين، بل أكبرها وأعظمها على الإطلاق، وقد بدأت الحركة الإسلامية سلسلة من إجراءات طلاقها من وظيفتها السامية، وبدأتها بالتدرج إلى ان انتهت منها وحسمت معها، وانتقلت عناصرها إلى الاشتغال بما هو ذاتي، حيث غلبوا مصالحهم الشخصية على مشاكل الناس ومصالحهم، وبما هو مادي، حيث غلبوا ما هو دنيوي على ما هو ديني، كما قال في كتابه الصاعقة ” الأخطاء الستة للحركة الإسلامية”.وأقول عن هذا الكتاب الصاعقة للآثار التي خلفها، والتبعات التي ترتبت عنه، حيث كان له وقع شديد، وشديد جدا على قيادات الحركة الإسلامية، وخلف ردود أفعال قوية ومتشنجة ظهرت في الانتقادات التي وجهها له أحمد الريسوني، على الرغم من أن الشيخ دافع عنه في كتابه وبرأه، وخلع عليه من الألقاب والصفات ما هو غير موجود فيه حقيقة ، واضطرار الشيخ إلى الدفاع عن نفسه ومواقفه. والحق أن هذا الكتاب أصاب الحركات الإسلامية في مقتل،ولذلك ثارت ثائرة قياداتها عليه، ولم يحترموا فيه سابقته، ولم يراعوا فيه أفضاله على الدعوة الإسلامية .
والحق أن ذلك الكتاب جدير بأن يكون العاصفة والقاصفة، فقد فضح وعرى وكشف ، وأبقى “الدعاة “عراة، وبيّن بالدليل وبالوقائع، أن هؤلاء ليس لهم من “الإسلامية” إلا الصفة، وإلا فإنهم لا يختلفون، من حيث الواقع، عن “خصومهم” في الفكرة والتوجه، إلا بابتدائهم باسم الله عند افتتاحهم للنقاش والحديث. و التدين، الذي هو الغاية الأولى للدين والدعوة إليه، أصبح رقيقا جدا عندهم، بل غدا في آخر سلم الأولويات وفي أرخص الاهتمامات عندهم.
الحقيقة أن الشيخ في هذا الكتاب، أفقدهم حتى توهمهم بأنهم دعاة ومعنيون بالإسلام، والدعوة إليه و التحريض عليه،خصوصا وأنه أكد ، وبالملموس، أن الحركة الإسلامية خسرت كل رهاناتها، وأخفقت في كل تطلعاتها وأحلامها، فأخفقت في “صناعة” الإنسان المسلم ، وأخفقت في إخراج شخصية مسلمة، بالمعنى الذي تحدث عنه المرحوم “فتحي يكن” في كتابه الصغير حجمه الكبير مضمونه “ماذا يعني انتمائي للإسلام”. وبالجملة، أخفقت في كل شيء، ولم تنجح” إلا في إنتاج كائنات سياسية بئيسة، انتهازية وصولية، لا علاقة لها بالإسلام، ولا صله لها به، بل على النقيض تماما من أخلاقه وآدابه، وهي الكائنات التي لم يجد وصفا يليق بها إلا “العقارب الخضر”، في إشارة واضحة منه إلى مبالغتها في السم والخسة والدناءة والمكر و الخداع.
وإذا كان الرجل قد أرجع هذه المصائب، وهذه الكوارث التي انتهت إليها هذه الحركات، إلى افتقادها ـ أي هذه الحركات ـ للقيادات “الرشيدة” من العلماء ،فإننا نخالفه هنا، ونرى أن الحركات هذه، يفتقد رجالها جلهم إلى الإخلاص :إخلاص العمل لرب العالمين ، والرغبة “الحقيقية” في الإصلاح ، يستوي في ذلك العالم وغير العالم، الشيخ والمريد، فالجميع أبان أنه لا يُعنى بهذا الإسلام، إلا بقدر ما ينتفع منه ويفيد،
لقد كتب الرجل مجموعة انتقاداته للحركة الإسلامية في مطلع القرن الجاري أي بين ألفين وألفين وستة، وكانت هذه الحركات لاتزال بكرا ولا تزال عذراء ولم تهتك السياسة عرضها وشرفها، أي لم يشارك أي منها في تسيير الشأن العام ، أي وهي لا زالت في موقع المعارضة ولم تتحمل أية مسؤولية ولم تتعرض لأي اختبار أو امتحان بالدنيا وخضرتها و زينتها ومتعها ،فكيف لو أطال الله عمره حتى رأى ما ٍرأينا و وقف على ما عليه وقفنا ؟ فماذا عساه يقول؟ و كيف يمكن أن يكون موقفه ؟
لو أطال الله عمره حتى رأى من وصفهم بالمجاهدين و المربين و المقاصديين، وغيرهم من “كبار الصالحين و أشياحهم ” يتورطون في فضائح لا أول لها ولا أخر، ويغرقون في مستنقعات آسنة وعفنة، ويخونون المبادئ التي قاموا من أجلها، وينقلبون على الأهداف التي نهضوا في سبيلها، ترى ماذا كان يقول؟
لو أطال الله عمره فٍرأى بأم عينيه، أن الدعوة إلى الإسلام خسرت اليوم كل شيء تقريبا، حتى أنها لم تعد تعني للناس شيئا، وأن الناس أمسوا فيها من الزاهدين و عنها من الراغبين. وأنهم جنوا على شعار “الإسلام هو الحل” جنايات، واية جنايات؟ وجعلوا هذا الشعار وهما وخرافة، وجعلوا من يتبناه ويدعو إليه مثارا للسخرية وأضحوكة بين العالمين، و رأى أيضا أن الانحسار الذي تعيشه هذه الدعوة اليوم ، والأزمة التي تعاني منها بسبب هذا الانحسار، إنما تتحمل مسؤوليته تلك “القيادات”؟ ترى كيف كان سيمارس هذا النقد، وبأي أسلوب و بأية لغة؟