لقد ادعى أبو حفص في الندوة المذكورة أنه خبير بالمجال السني..يا للريب ويا للخبرة..خبير في المجال السني لا يعرف أن الخليفة الثاني لم يكن راضيا عن قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة تحت عنوان الردة، ولهذا لم يوله أي منصب عندما تسلم السلطة السياسية..لأن المقتلة لم تكن في صالح السلطة الجديدة..خبير في المجال السني لا يعرف أن العشرات تحدثوا في الموضوع قبله لم يشر إلى أي واحد منهم..طبعا هو ليس خبيرا بالمجالات الأخرى حتى نقول له إن هناك مدونات كاملة عن هذه الحروب السياسية التي تمت تحت عنوان “الردة”..
هذه القفزة من التكفير إلى نقيضه، الذي هو بدوره تكفير آخر بمعنى الإقصاء، محاولة للهروب لا أقل ولا أكثر..هو الآن يُكفر حتى النصوص، التي تحتاج إلى عملية تأويل لا يقدر عليها، هو الذي تربى في “حجر” الحشوية السلفية، وتحول اليوم إلى “حشوي حداثي”، بمعنى يحفظ بعض الشعارات التي يرددها، وللأسف الشديد حتى في محفوظاته هو يقلد صنفا من “مفكرين” بلا أفكار، وحبذا لو كان قلّد مثلا المفكر عبد الله العروي..
ما الجديد اليوم؟ كنت سلفيا تكرر قالوا واليوم تزعم أنك حداثيا وتكرر أيضا قالوا..تحاول الزعم بأن هذه الأشياء جديدة، ولكنها معروفة وجديدة عليك وحدك وإنما أثخنها الباحثون على مدى الزمن تدقيقا..بدليل ما قاله عن الردة، وفيه كلام معروف وقلنا له إن الأمر يتعلق بتدبير سياسي حتى باعتراف قادة المرحلة..لهذا فالمفهوم هنا على المسامحة اللغوية حتى يسهل توظيفه سياسيا..ومشكلة أبو حفص هو أن يهرب في السرديات لأنه غير قادر على “تنسيب” التكفير إلى شجرته الحقيقية..فالردة موقف سياسي لا تنتمي لصنف التكفير الممنهج الذي بدأ مع الخوارج..
هل ان تكون مفكرا هو فقط ان تقول انا لم اعد اكفر….لماذا لم يبق شيخا سلفيا متحولا فقط؟
عجيب أمر عالم الفكر اليوم..الرجل كان داعية للتكفير وكان محرضا عليه..ولم يكن طفلا صغيرا، لأنه لما اعتقل كان يعتبر من شيوخ هذه النحلة..وضحاياه بالمئات وهم موجودون حاليا في بؤر التوتر..ومنهم عائدون من سوريا، وبعضهم يهاجمه الآن لأنه فر بجلده وتركهم في الأرض التي دعاهم إليها..ولهذا يتحدث اليوم بلغة “لما كنت في الإيديولوجيا”..أنت كنت هناك داعية لذلك ومحرضا..يوم تم القبض عليك كنت شيخا بالجلابة والبرودكان وليس طفلا يرضع أصبعه..من ينبغي أن يبكي اليوم هم من ورطتهم..وهل أخبرتهم بتحولك أم تركتهم فريسة؟
الانتقال من التكفير إلى نقيضه هو تغيير لموقف ولا يمنح صاحبه صفة مفكر..بل يدخله ضمن عوام الناس الذين لا يكفرون أحدا ويعيشيون حياتهم الطبيعية..كنت مكفرا ولم تصبح هذا شأنك..لكن أن تكون مفكرا فهذا يعني أنه لديك فكرة تريد أن يقتسمها معك الآخرون..
كيف لمن كان حتى الأمس القريب مكفرا أن يصبح بين يومين مفكرا..وكيف أصبح يعطينا دروسا في الحداثة والتنوير حتى أننا لم نعد نحتاج إلى العروي أو الخطيبي أو الجابري…المشكلة اليوم أننا لم نعد في حاجة إلى كل هذا التفكير مع هؤلاء الرواد بل يكفي أن تقول أنا لست تكفيري لتصبح مفكرا وكاتبا وباحثا…فهذا تحول من موقف إلى آخر بعد ظهور مصلحة معينة، ولا علاقة له بالتفكير لأن التفكير هو استخراج فكرة، أما أن تكون تكفيريا أو لا تكون فهذه تعنيك، فأنت هارب من موقف ولكن لا فكرة لديك..فهل كل عوام الناس الذين لا يكفرون مفكرون؟
عملية التفكير البهلواني الهاربة من “التأويل” هي عملية مسبوق إليها أبو حفص من قبل مغاربة يتصدرون المشهد الإعلامي مثل عصيد وغيره، وهي إلصاق كل شيء بالنص..أن ترفص النص بالمطلق أو تقبله على ظاهره فأنت ما زلت في المنهج السلفي، حتى لو قمت بكل العمليات التجميلية لتظهر حداثيا بما في ذلك حلق الشعر على طريقة “ترافولتا” وتغيير الضحك من السلفية الخشنة إلى ضحكة ممجوجة..فهذا نفسه تطرف، فلما كنت سلفيا كنت متطرفا ولما أردت أن تكون حداثيا أصبحت متطرفا..
في مجال الفكر لا تفيد لقلقة اللسان وترديد المحفوظات، ومشكل أبي حفص أنه حشوي ولو أحصينا مسروقاته على طريقة الحشوية لوجدناها كثيرة، وهذه طريقة الشيخ بن تيمية أيضا الذي يعتبر نموذجا لهؤلاء، فكل الأفكار التي تميز بها هي من مسروقات خصومه..فحتى في ترديد شعارات الحداثة ينبغي الالتزام بالأمانة العلمية وليس العمل كحاطب ليل..أما التفكير فهي شعبة أكثر تعقيدا وليس كل من تحول يعتبر مفكرا..هل كل من انتقل من دين إلى دين أو مذهب إلى مذهب يصبح مفكرا..وللأسف منحناه ثلاثة ألقاب كبيرة جدا.
فأقصى ما يمكن أن يقوله أبو حفص هو أن يحكي عن ماضيه فقط، وكيف كان تكفيريا يحرض الشباب، تم أصبح شخصا عاديا، وهذا الأمر في حده الأقصى يخرجه من ظلامية التكفير إلى أن يفكر مثل عوام الناس دون ألقاب ثلاثة فيها المفكر، وهو لا فكرة له، والكاتب، وهو لم يكتب مقالا فبالأحرى دراسة، وباحثا، دون بحوث.
فالقول بهذا أو قبوله هو انتحال شخصية..وكم مرة اعترضت على صفات تريد بعض القنوات إلصاقها بي وأنا لست أهلا لها..فلو كانت هناك هيئة تعاقب من ينتحل الألقاب لعاقبته على ذلك..ولا فرق بينهم وبين أولئك الذين ينتحلون صفات وهمية من أجل النصب والاحتيال..وفي عالم الفكر الخطورة مضاعفة لأنهم يراهنون على جيل لم يعرف غيرهم..
وأحيانا السؤال يكون غير دقيق. سأله مدير البرنامج عن دور علم الكلام وفلسفة الدين في لجم التكفير..أولا ليس هناك تخصص في هذا المجال الذي نعيش فيه بهذا العنوان أي فلسفة الدين..وفضل أبو حفص الهروب في سرديات عن الجعد بدرهم الذي ذبحه خالد القسري الوالي الأموي، في محاولة ليبين أنه على دراية بهذا العلم الذي تعتبر مطالبه دقيقة وصعبة المسالك..الاختباء وراء الحكايات هو منهج ليس بجديد ولا يمكن أن يساهم في التنوير..وتم تقديمه على أنه باحث في العلوم الإسلامية وتبين أنه لا علاقة له بها ولا يحوم حولها أصلا..
ما يقوله هو وغيره شيء معروف ولا يظن أن الناس لا تعرف ذلك، بل هناك كثيرون يعرفون، وما عليه سوى أن يحدثنا عن ضحاياه الموجودين حاليا في بؤر التوتر، فلقد كان عاقلا وشيخا (حتى) وبالتالي قانونا وشرعا هو مسؤول عن التحريض.
وصل الانحطاط بالتفكير أن كل من يتبنى موقفا من قضية ما يصبح مفكرا..والأدهى والأمر هو أن يكون التنوير مبنيا على السرقات الأدبية، وكنت قد فتحت هذا الملف، وسأعود إليه قريبا، ولا أعتقد أن هذا يخرج عن صميم مهنتي..
هذه الظاهرة مبنية على ما يسمى المراجعات..والمراجعات هي تقويم النظر، لا النظر إلى الأفكار وفق مقتضى التعاقدات الجديدة ووفق المصلحة والصفقة..