كان الفيلسوف الشّهير [توماس كارلايل: 1795 ــ 1851] هو أول من استخدم عبارة (السلطة الرابعة) للدلالة على رجال الصحافة، وكان ذلك في كتابين معروفيْن من كتبه، هما كتابُه عن (الثورة الفرنسية)، وكتابُه عن (الأبطال وعبادة البطولة)؛ لكن مهلاً! أحقّا كان الاسم الذي أطلقه [كارلايل] على رجال الصّحافة يعني بالدّقة (السلطة الرابعة) كما أُشيعَ عنه في الترجمة العربية؟ كثيرة هي الألفاظ العربية التي نقلنا بها المعاني من الثقافة الأوربية، فإذا هي لا تنقُل المعاني كما كانت في أصولها، فتنحرف عن مقاصدها، وينحرف تفكيرُنا نحن مع انحرافها.. فماذا كان [كارلايْل] يقصد باستعماله لِلَفظة (السلطة الرابعة)؟ اللفظة تعني أن رجال الصحافة هم بمثابة (جماعة رابعة)، ولا تتضمّن معنى (السّلطة) إطلاقا، لا من قريب ولا من بعيد؛ إذن ماذا كانت تعني لفظة (السّلطة الرابعة) يتساءل القارئُ الكريم؟
كان البرلمان البريطاني، وأظنُّه لا يزال، يشتمل على جماعات ثلاث، هي جماعة اللّوردات العَلْمانيين، وجماعة النّبلاء من رجال الدّين، وجماعة العامة من أبناء الشّعب؛ فأراد [كارلايْل] أن يقول إنّه إذا كانت هذه الجماعات الثلاث مقرُّها البرلمان، فهنالك جماعة رابعة مقرّها دورُ الصُّحف، ويعني بها رجال الصحافة، وهي في قوّة تأثيرها، هكذا قال عنها، تساوي الجماعات البرلمانية الثلاث مجتمعة، فالأمر كما ترى سيّدي القارئ الكريم، ليس أمرَ (سلطة)، وإنّما هو تأثيرٌ يسري فعلُه في الناس سريعًا أو بطيئًا، حتى تتحوّل وجهاتُ أنظارهم إلى حيث أريدَ لها أن تتّجه، وهذا التغيير لا يتمّ بواسطة القمع، أو الخوف، أو تكميم الأفواه، ولكنّه يتمّ بفعل الكلمة الجادّة، التي تخاطب العقل، والوجدان، ممّا يجعل الصحافة وسيلةَ تثقيف، وتوجيه، وتوعية، ممّا يبرّئُها من أن تكون (سلطة)، والسّلطة لغةً معناها الغلَبة والقهر، والصّحافة غيْر ذلك تمامًا، لكنْ لها تأثير ووقْعٌ على الأذهان والأنفس أكثر من أيّ سلطة كائنة ما كانت.. قال [سارتر] ذات يوم، إنّ الكلمة أكثر وقعًا من الرّصاصة.. نعم، إنّ العصا تخلقُ الجبناء، وأما الكلمة تخلقُ الأبطال، وصدق من قال: أريني صحافةَ أيِّ بلد، أقول لك ما هي أحوالُ ذلك البلد؛ فالصّحافة مِرآة المجتمع..
وبما أننا نعيش ظروفا استثنائية بسبب جائحة (كورونا)، فقد لعبتِ الصحافةُ الجادّة والملتزمة بقضايا الأمّة وهموم الشعب، دورًا لا يُنكر بالتعريف بخطورة الوباء، وبالتوعية لاتخاذ الحذر والاحتياط، وبيَّنتْ بعضَ الشّروط للوقاية منه.. قد يَطلب مني القارئُ أحوال أممٍ اجتاحتْها أوبئةٌ في وقت لم تكن هناك صحافةٌ تخاطب الشعب يوميا وتُطلعه على خطورة الدّاء ومدى انتشاره في البلاد؛ وأهمّ ما اطلعتُ عليه في هذا الباب، هو موت فلاسفة عظام، حصدتْهم الأوبئةُ يوم لم تكنْ هناك صحافةٌ تحذِّر، ولا دولةٌ مسؤولة تقدِّر، وللشعب تنذِر، وفي هذا الباب سأخصّ بالذكر فلاسفة بارزين في زمانهم.. كان [يوهان جوتليب فيشته: 1762 ــ 1814] فيلسوفًا شامخًا، وإنسانًا مخلصًا بعمق، ووطنيا صادقًا لا شكّ في ذلك، وبعد هجمة (نابليون) على (روسيا)، طلب الفيلسوف [فيشته] من زوجته أن تزورَ المستشفيات، وتساعد في العناية بالجنود الجرحى، فأصيبت بحمى بداء غير معروف، وغيْر معلن عنه في (ألمانيا)؛ شُفيتْ منها ببطء، غيْر أنّ [فيشته] انتقلتْ إليه العدوى بالحمى، ومات خلال أيام، لأنّه لم يتّخذ أيَّ احتياط، ولم تكن هناك صحافةٌ يقْرؤُها تبيِّـنُ أنّ الأمر يتعلّق بوباء فشى في البلاد، وقضى الفيلسوف لعدم وجود إعلام يفسّر، ويحذّر، ويدعو إلى الحيطة والاحتراز.. وهذا الفيلسوف المعروف [إسبينوزا: 1632 ــ 1677] مات بسبب إصابته بداء السّل الذي كان قد فشى في (هولاندا)، ولم تكن هناك صحافةٌ تحذّر، أو تنذر بانتشار الداء على أوسع نطاق، ومات العديد من الناس.. وهذا آخر عمالقة الفلسفة، وأعني به [هيغل: 1770 ــ 1831] مات بسبب وباء الكوليرا الذي انتشر في (بريطانيا) سنة (1831)، ولم يقدِّر خطورتَه أحدٌ، ولم يحذَّرْ منه..
لكنْ تَمهَّلْ، ولا تَعْجل عليّ! فمَن حذَّر من وباء (الإنفلوانزا الإسبانية) الذي أحاطتْه الدّولُ بالسّرية، وقد حصد أرواحًا تفوق ما حصدتْه الحربُ العالمية الأولى، وكان آخر ضحاياه الأديب الفرنسي الشهير [أبُّولينير: 1880 ــ 1918]؟ فهذه المرحلة الخطيرة التي يجتازها العالمُ من مراحل التاريخ، لها من الخصائص ما يجعل الصحافةَ، وأعني الجادّةَ، والملتزمةَ، والمسؤولةَ منها في كل بلادنا، تتخذ بعدًا رأسيًا، لِتُولى اهتمامًا وتنميةً باعتبارها فاعلاً أساسيًا في التوعية، وفي كل سياسة تصبو إلى الرّقي، والتقدم، وخلْق إنسان حقيقي، وبناء مُواطن فاعل.. فعالـمُنا اليوم، إن لم يكنْ في حالة حرب مُسْتَتِرة، فهو عالمٌ منقسم إلى تكتّلات، وإلى جهات، وإلى فئات، يقاتل بعضُها بعضًا على كلّ المستويات، منها المستوى الفكري، والمستوى الاقتصادي، والمستوى السّياسي، ممّا يبيِّن ضرورةَ الصّحافة في مثل هذا العالم الأهوج، المضطرب، ولقد شهدنا دوْرَ الصّحافة البريطانية في الحربين الأولى والثانية؛ والصحافة حارسُ حقوق الشّعب، ورقيبٌ على المسؤولين..