محمد فارس
قال السّيد [المسيح] عليه السّلام: فتِّشُوا الكتب، تعرفون الحقّ، والحقُّ يحرِّركم]؛ ثم قال: [هلكَ شعبي مِن قلّة المعرفة] وصدق عليه السلام، فقِلّةُ المعرفة تؤدّي حتمًا إلى الهلاك، وهذا كلامٌ نسوقه للّذين استخفّوا بالإجراءات المتّخذة لمواجهة (ڤَيْروس كورونا)؛ فالدّول في الحرب العالمية الأولى، وخلال تفشّي [الإنفلوانزا الإسبانية]، لم تكنْ تهتمّ بالشّعب، وقد مات النّاس في بيوتهم رفقة أُسَرهم، وهناك من مات في الشّوارع، فلم تكنِ الدّولة تسمح حتى بالحديث عن ذاك (الڤَيْروس)، وكلّ من كان يتحدّث به، كان يُعتبَر خائنًا أو عميلاً لدول أخرى، أمّا الجنود، فكان يُعدَم منهم كلّ من تحدّثَ عن الوباء واعتُبِر أنّه يُثْبط عزيمةَ الجيش، ويخدم مصلحة الأعداء، فكان يُعدَم ميدانيًا، وكلّ الدّول المتحاربة كانت تنفي وجودَ [الإنفلوانزا الإسبانية] رغم أنّه كان يحصد الملايين عبر العالم؛ أما اليوم، فإنّك تجد الدولةَ هي من تُخْبر الشّعب بتفشّي (ڤيْروس كورونا)، وتتخذ الإجراءات لحماية المجتمع، ولا تخفي عن المواطن خطورتَه، وتنصحه باتّباع نصائح وقائية، وتضحّي بالاقتصاد في سبيل سلامة الشّعب..
في [صحيح البخاري] في [باب ما يُذْكَر في الطّاعون]؛ حديث رقم: (5728): [حدَّثنا حَفص بنُ عُمر، حدَّثنا شُعْبة، قال: أخبرني حبيب بنُ أبي ثابت، قال: سمعتُ إبراهيم بن سَعْد، قال: سمعتُ أسامة بن زَيد، يحدِّث سعدًا عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (إذا سَمِعْتم بالطّاعون بأرض، فلا تَدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها)؛ فقلتُ: أنتَ سمعتَه يحدّث سَعدًا، ولا يُنْكره؟ قال: نعم].. وفي حديث رقم: (5729): [حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن، عن، عن عبد الله بن عبّاس أنّ (عمر بن الخطّاب) رضي الله عنه، خرج إلى الشَّأم (يعْني الشَّام) حتى إذا كان بِسَرْغ، (هي بَلْدة)، لقي أمراء الأجناد، أبو عبيْدة بن الجرّاح، وأصحابه، فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بأرض الشّأم، قال (ابنُ عبّاس): فقال (عمَر): اِدْعُ لي المهاجرين الأوّلين، فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنّ الوباء قد وقع بالشّأم، فاختلفوا، فقال بعضُهم: قد خرجتَ لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معكَ بقيةُ النّاس وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا نرى أن تقدمَهم على هذا الوباء، فقال: اِرتفِعوا عنّي، ثم قال: اِدْعوا لي الأنصار، فدعوتُهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم فقال: اِرتفِعوا عنّي، ثم قال: ادْعُ لي مَن كان هاهُنا من مَشيخة قُريْش من مُهاجرة الفتح، فدعوْتُهم..]..
[.. فلم يختلفْ منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجعَ بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى (عُمر) في النّاس: إنّي مصبّحٌ على ظهر، فأصبِحوا عليه، قال (أبو عبيدة بن الجرّاح): أفِرارٌ من قدَرِ الله؟ فقال (عُمر): لو غيْركَ قالها يا أبا عُبيدة؟! نعَم، نَفِرُّ مِن قدَر الله إلى قدَر الله، أرأيتَ لو كان لك إبلٌ هبطتْ واديًا له عُدْوتان: إحداهما، خصبة، والأخرى جَدْبة، أليس إنْ رعيتَ الخصبةَ رعيتَها بقدَر الله، وإنْ رعيتَ الجدْبة، رعيتَها بقدَر الله؟ قال: فجاء (عبد الرّحمان بن عَوف)، وكان متغيِّبًا في بعض حاجته، فقال: إنّ عندي في هذا عِلمًا؛ سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (إذا سمعتم به بأرضٍ؛ فلا تَقْدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فرارًا منه)؛ قال: فحَمِد الله (عمَرُ) ثم انصرف..
هذا الحديث نرويه لِلّذين أفتَوا المواطنين بعدم شرعية إقفال المساجد درءًا لخطر (ڤَيْروس كورونا)، كما يؤكّد عقلانيةَ منْع السّفر من مدينة إلى مدينة، كما يؤكّد صوابَ الإجراءات المتّخذة، والقاضية ببقاء النّاس ببيوتهم، وعدم الخروج، بل يحرصون على البقاء في مدنهم، وفي بيوتهم، ولا يفرّون من مدينة إلى مدينة، أو من دولة إلى دولة، بل يمكثون في بلدهم صابرين كما حثّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: (5733)؛ ومن مات بالدّاء فهو شهيد، وقد علم أنّه لن يصيبَنا إلاّ ما كتب الله لنا، لكنّ الاحتراز والاستبصار أوصى بهما النّبيُّ الكريم، ثم نصح المسلمين قائلاً: [اِستَعينوا على الدّاء، بالدّعاء]؛ والملاحَظ هو أنّه من دخل أرضًا حدث بها وباء، فقد ألقى بيده إلى التّهلكة؛ ومن فرّ من أرض بها وباء فقد يَنقل العدوى إلى أرض سليمة؛ لهذا، فالمكوث في المدن، والمكوث في البيوت، كان إجراءً أملاه العقل، والدّين، والعلم؛ والمغاربة كافّة، التزموا به، وحرصوا على تنفيذه، رغم من يضلّون الناسَ بالدّين، الّذين يدّعون الإسلام، وهم أجهل خلْق الله بمقتضياته، ومنها صحّة الأبدان قبْل كلّ شيء..