طارق ضرار
لا شيء أخطر على السياسة من لحظة يقرر فيها التاجر أو رجل الأعمال أن يعلق الآلة الحاسبة، ويطفئ آلة صنع الفواتير، ثم يتجه بربطة عنق أنيقة نحو البرلمان أو الحكومة… وفي جيبه قلم ليس لسن القوانين، بل لسن الفواتير الجديدة التي سيدفعها المجتمع شاء أم أبى … فما إن يدخل التاجر عالم السياسة حتى يتغير كل شيء الميزان يصبح ميزان ربح، والمصلحة العامة تتحول إلى جملة مبهمة تشبه تلك الجملة الصغيرة أسفل العقود التجارية “تطبق الشروط والأحكام”.. أما الشروط والأحكام هذه، فلا يعرفها إلا هو… ويكتبها كيف يشاء.
وحين يجلس رجل الأعمال على كرسي المشرع، يصبح الوطن نفسه مشروعا استثماريا يحتاج “إلى خطة عمل”، و”دراسة جدوى”، و”وحدة مراقبة النفقات”. فيبدأ يشرع لا للوطن، بل للأسهم، لا للعدالة بل للموانئ، لا للناس بل للأسواق…
فالعقلية التجارية لا ترى المواطن إلا زبونا، والفقير إلا رقما خارج المعادلة، والضعيف إلا “قطاعا غير مربح” .. كيف له إذن أن يعرف حاجيات الفقراء؟ هو بالكاد يعرف لون البطاقة الوطنية، أما بطاقة “الزبون المميز” فهي التي يفهمها جيدًا.
يدخل البرلمان فيظن نفسه داخل قاعة مزادات. يرى القانون مشروعا تجاريا يحتاج إلى مستثمرين.
ويتعامل مع المال العام كأنه نقدٌ مهدور في يد محاسب كسول. المشرع التاجر لا يعرف من القيم إلا قيمة السهم… ولا من المؤسسات إلا المؤسسة البنكية. ولا من الحدود إلا الميناء… حيث يحمل ويفرغ ما شاء الله من مصالح .. أما حين يُطرح عليه قانون اجتماعي، يخص السكن أو الصحة أو التعليم، فإنه ينظر إليه كما ينظر أي تاجر إلى سلعة لا تتحرك في السوق هذا لا يبيع… لا يربح… لا يهم.”
وبدل أن يسن قوانين لحماية المستهلك، يسن قوانين لحماية المستثمر وبدل أن يضع الإطار القانوني للعدالة الاجتماعية، يضع الإطار القانوني للامتيازات الضريبية وبدل أن يدافع عن الطبقات الهشة، يدافع عن الهشاشة في مراقبة الثروات.
والأدهى من هذا كله… أنه مقتنع بأنه “ينقذ الوطن” فهو يعتبر أي انتقاد عرقلة للاستثمار، وأي مساءلة تهديدا للثقة، وأي محاولة لضبط السوق تدخلًا في حرية المبادرة أما حرية المواطن في العيش الكريم؟ فتلك بالنسبة إليه مجرد “تكلفة إضافية”… إننا أمام نوع جديد من التشريع تشريع على المقاس، تشريع على الطريقة التجارية، تشريع يعتبر الوطن شركةً مدرجة في البورصة، والمواطنين أسهما قابلة للارتفاع والانخفاض.
ولأن لكل ابتلاء حكمة، فقد ابتلينا برجال أعمال يشرّعون لنا… يشرعون لأنفسهم، ولدوائرهم، ولخزائنهم… ويتركون لنا نحن “الزبائن” أن نبحث عن تخفيضات في الأسواق الاجتماعية التي لم تعد لها بضاعة أصلا..






