محمد عفري
كل الأنظار تتجه إلى فاس بعد الانهيار الكارثي المفجع لـ”العمارتين” الذي خلف مقتل عدد لا يستهان به من القتلى وعددا آخر من الجرحى قد يرفع عدد القتلى، ورحم الله من قضى وأطال أعمار من يئنون تحت معاناة الجراح والكسور والندوب النفسية، وربما الأنظار صوب هذه المدينة اليوم، أكثر من صوبها خلال العقود الأخيرة لمناسبة مهرجانها الدولي الشائع “الموسيقى الروحية”، لأن الأمر يتعلق بفواجع لا تعد ولا تحصى وليس بغذاء الروح، ولأن المسؤوليات متداخلة ومركبة.
قيل قديما عن العاصمة العلمية ــ الروحية لوطننا الغالي، “فاس والكل في فاس”، العلوم المتنوعة وجامعة القرويين وباقي الجامعات والمعاهد والصناعات والحرف التقليدية المتجذرة في التاريخ والتجارة وقوافلها التي تشد ذهابا وإيابا إلى إفريقيا وغيرها، وما إلى ذلك..
وقيل حديثا مفهوم عبارة “فاس والكل في فاس..”، يعني كل ما يتصوره العقل ولا يتصوره يمكنه أن يكون في فاس، والواقع يؤكد هذا المفهوم، بنسبة مائوية مهما حاولنا، يؤكدها بداية من الارتفاع المهول في معدل الجريمة وفي استعمال المخدرات والمتاجرة فيها وفي الهجرة القروية والاكتظاظ السكاني والهدر المدرسي وفي تشغيل القاصرين وفي معدل الهشاشة ومعدلات حوادث السير والجولان وفي الشغب الرياضي وفي البناء العشوائي، إلى ما لا يعد ولا يحصى من الإشكاليات، إلى الغش في السكنى والتعمير، ولا شك أن المؤشرات الأولية للتحقيق الميداني في حادث انهيار العمارتين تؤكد هذا الغش وتؤكد تداخل المسؤوليات في هذا الغش واستعماله، وتؤكد استحالة المحاسبة وجبر الأضرار، ومن يحاسب من، إذا كانت السلطة، من المقدم والشيخ والقائد، لا تستثنيها أصابع الاتهام، وإذا كان المنتخبون، بمن فيهم، رئيس الجماعة ــ المقاطعة التي تقع العمارتان المنهارتان بمجالها الترابي، والمستشارون جزءا مهما من القضية، وإذا كان المقاول ــ البناء هو الحلقة الأهم في هذه القضية، والمواطن هو الحلقة الأكثر أهمية في السلسلة بكاملها، مادام هو “المحتاج” الساعي دوما إلى قبر للحياة، قد يتحول بإمضاء “مأجور” من رئيس الجماعة الترابية وقسمها للتعمير، أو بغض للطرف من عون للسلطة بمقابل زهيد أو ظرف سمين إلى رئيسه في إطار عملية “ادهن السير يسير”، أو بنقص متعمد من “المنعش العقاري” في مواد البناء من إسمنت وحديد، يتحول إلى قبر للموت، كما هو الحال في عمارتي الحي العتيق بنسودة، وقد يحدث في غيرها من الأحياء الهشة المشابهة في فاس وغير فاس، التي تبقى نموذجا مصغرا، لما حدث مرارا ويحدث في الدار البيضاء في الأحياء الشعبية المكتظة..
الغش واستعماله وتورط شبكة المتداخلين فيه، لا يتوقف عند انهيار العمارات والمساكن بالأحياء الشعبية أو المكتظة، كما لا يمكنه أن ينسينا انهيار عمارة بن وجيه بمدينة القنيطرة، وهي في طور البناء وعلى وشك نهاية ورشها، أو ينسينا في مآل عمارتي بورغون بالدار البيضاء، اللتين انهارتا في زمنين متباعدين لا يتعديان شهورا، لكنهما انهارتا انهيارا لأسباب تداخلت فيه المسؤولية، بين الإدارة ورخصها و”أعينها” التي لا تنام، وجشع “المنعش العقاري” وتحدي أصحاب “العقارين” المنهارين..
حتما ستتحدد المسؤوليات في انهيار عمارتي حي بنسودة في فاس، وحتما ستقع “الفاس في رأس” المواطن التواق دوما إلى سكن لائق، وفي أبعد الحدود ستقع “فأس فاس على رأس” المقاول. أما “السلطة ــ الإدارة” فهي نائية والمنتخبون عن المحاسبة، لأن المغرب والمغاربة طبعوا تطبيعا مع سلوك السكنى والتعمير بالشكل المؤدي إلى الانهيار، إلا من رحم ربي..






