أكدت الرسالة التي وجهها جلالة الملك إلى الدورة الحالي للمعهد القانون الدولي، المنعقدة بالمغرب، ان بلادنا تتوفر على رؤية واضحة للقانون الدولي، بما هو قانون يتوفر على ولاية عامة تخترق الحدود، وهذه الرؤية هي التي مكنت المغرب من الموازنة بين السيادة الوطنية والالتزام بقواعد القانون الدولي.
الرؤية الملكية للقانون الدولي ترتكز على قراءة التحولات العالمية، إذ إنه بحكم التوترات القائمة بين السيادة الوطنية والتعاون الدولي، وبين الإكراهات الأمنية ومتطلبات التضامن، فإن الأزمات البنيوية لا ينحصر تأثيرها في زعزعة النظام القائم، بل تكشف أعطابه وتسرع من وتيرة تحولاته، ولهذا يلزم دراسة ومحاولة فهم هذه التحولات، لا استيعاب الماضي القريب فحسب، بل من أجل رسم معالم قانون دولي يساير المستجدات ويرقى إلى مستوى تحديات المستقبل.
القراءة الجديدة للقانون الدولي، هي سعي إلى إنتاج مفاهيم ومفردات وصياغات جديدة، تنسجم مع التحولات، التي يعرفها العالم، الذي يتغير بسرعة فائقة، حيث أصبحت اليقينيات في تراجع مستمر، وكل هذه التحولات أدت إلى اختلاط المعايير والمفاهيم، وباتت التحالفات مثار تساؤل، وأصبح القانون الدولي عرضة للانتهاك في أحيان كثيرة، وصارت قدرته على تنظيم العالقات الدولية تواجه العديد من التحديات.
انتهاك القانون الدولي وتعريضه لفقدان القدرة على حسم الصراعات جعل منه أداة مشلولة تحتاج إلى تجديد سريع حتى يحتل مكانته المستحقة باعتباره الأداة الوحيدة لصون العالقات الدولية والموازنة بين الجغرافية السياسية والسيادة الوطنية في عالم أضحت فيه العالقات بين البلدان سريعة التحول.
ومن دلائل توفر المغرب على رؤية للقانون الدولي ما جاء في الرسالة الملكية “يغطي، هذا المؤتمر، موضوعات حارقة من ضمنها تلك المرتبطة بقضايا الأوبئة، وهي أزمات عالمية ال تقتصر تداعياتها على صحة الناس فحسب، بل تمتد حتى إلى المبادئ الجوهرية التي يرتكز عليها بنيان العالم”.
يعني أن الجغرافية السياسية تتأثر ليس فقط بدائرة نفوذ القوى الكبرى والإقليمية، وال بالحروب المسلحة وغير المسلحة، ولكن تتأثر بالظواهر الطبيعية والأمراض الفتاكة، وخصوصا الأوبئة، التي يرى جلالته أنها ال تؤثر فقط على صحة الناس، لكنها تؤثر على بنيان العالم من خلال التأثير على مبادئه الجوهرية.
الرؤية الملكية تمس جوهر القانون الدولي من خلال اعتبار العالم كبنيات يمكن تحريكها من خلال الأوبئة ويقاس عليها الظواهر الطبيعية كالجفاف وغيرها، التي تتداخل اليوم لصناعة الجغرافية السياسية.
فالقانون له مكانة خاصة في صناعة العالقات الدولية، لكن في السنوات الأخيرة ابتعد عن جوهره ليخضع لخطابات طوباوية تبتعد به عن دوره الحقيقي والرئيسي، مما يقتضي تظافر الجهود لإعادته إلى طبيعته التي من أجلها نشأ، وهذا يقتضي أوال وقبل كل شيء إنتاج الجهاز المفاهيمي والنظري للتحولات قبل صياغتها في قواعد يمكن أن تتواضع الدول على تبنيها.