حاولت إيلنارا مارسيا نيجري، الباحثة ومتخصصة طب الرئة بكلية الطب في جامعة ساوباولو البرازيلية، أن تفحص عددا من المعايير الوظيفية لرئة أحد مرضاها بكورونا في الخامس والعشرين من مارس الماضي وجدت شيئا غريبا.
تقول نيجري “كانت نسبة الأكسجين في دم هذه المريضة منخفضة جدا، لكن على الرغم من ذلك كانت تتنفس بشكل طبيعي، وذلك غير معتاد”. في حالة كتلك كان من المفترض أن تبدأ رئة المريضة في حبس الكثير من ثاني أكسيد الكربون ما يدفع برسالة إلى دماغها تطلب من عضلات الرئة أن تستمر في العمل بمعدلات أكبر، وهو بالتبعية ما يدفع المريض للتنفس بسرعة أكبر، وكأنه يصعد بسرعة على درجات سلّم طويل.
لكن هذا لم يحدث، في تلك النقطة فكّرت نيجري في فرضية تقول إن مشكلة هذه السيدة ربما تكون غير متعلقة بالرئة نفسها بل بنقص الأكسجين بسبب جلطات صغيرة في أوعية الرئة الدموية الصغيرة، خاصة أن هذه السيدة واجهت مشكلات في أصابع القدمين تُشير إلى ذلك، تتسبّب تلك الجلطات في أن الأكسجين لا يعبر من الأوعية الدموية بالرئة إلى بقية الجسم، وفي الوقت نفسه لا يستشعر المخ المشكلة ويتنفس المريض بشكل طبيعي.
تقول نيجري: “أعطينا المريضة أدوية مضادة لتجلط الدم، وكانت النتيجة أن مشكلاتها التنفسية توقفت، وتحسّنت حالتها”. في الواقع، لم تكن تلك هي نتيجة حالة واحدة فقط (2)، بل تحسّنت 27 حالة أخرى مع هذا البروتوكول الجديد، وفي حين أن الشفاء من المفترض أن يأخذ 28 يوما في المعتاد، تحسّنت تلك الحالات في أقل من 14 يوما.
كانت نيجري من أوائل الذين أشاروا إلى أن “كوفيد-19” يمكن أن يتسبّب في تلك الجلطات والتي يمكن أن تسافر لكل أنحاء الجسم متسبّبة في أضرار بالغة للأعضاء، كان ذلك في الكلى أو القلب، أو حتّى الدماغ، حيث يمكن لكورونا المستجد أن يقتل مرضاه بسكتة دماغية. لكن المفاجئ في الأمر هو أن كورونا المستجد -دونا عن رفاقه- هو فقط ما يفعل ذلك.
لفهم تلك الفكرة بشكل أعمق دعنا نقارن بين “كوفيد-19” والإنفلونزا المعتادة في الحالات المتقدمة، حيث قام فريق بحثي متعدد الجنسيات بتشريح سبع رئات لأشخاص ماتوا بسبب إصابتهم بـ “كوفيد-19” مقارنة بمجموعة أخرى من رئات أشخاص ماتوا بسبب حالة متقدمة من الإنفلوانزا، صدرت النتائج ماي الماضي في دورية (3) “نيو إنجلاند جورنال أوف ميدسن” المرموقة واسعة الشهرة.
***********
جلطات في أنسجة الرئة بعد تشريح جثث ماتت بسبب “كوفيد-19”
في الحالتين، كان المتوقع هو إيجاد ضرر شديد في الحويصلات الهوائية بالرئة، فنحن نعرف بالفعل أن الأمراض التنفسية قد تتطور من التهاب رئوي إلى متلازمة ضيق تنفس حادة (ARDS) تكون تلك أعراضها، حيث تمتلئ تلك الحويصلات الرئوية بالخلايا الميتة والصديد وبقايا معركة مناعية شديدة حدثت هناك بين الجسم والفيروس.
لكن في حالة وفيات “كوفيد-19” فقط كانت هناك آثار ضرر بالغ بالبطانة الخلوية التي تغطي الأوعية الدموية من الداخل (endothelium)، مع كميات كبيرة من الفيروس في خلايا تلك الطبقات، وعدد كبير من الجلطات في الأوعية الدموية، في حديثها مع “ميدان” تقول نيجري: “تأثُّر تلك الخلايا التي تغطي الأوعية من الداخل هو ما يتسبّب في تحفيز تخثر الدم، كذلك فإن الاستجابة الالتهابية الشديدة بسبب المرض تُحفِّز التخثر، يبدأ الأمر في الأوعية الدموية المحيطة بالرئة ثم ينطلق إلى أعضاء الجسم كافة”.
في الواقع فإن الفرضية التي تقول إن كورونا المستجد يتخلل الخلايا التي تبطن الأوعية الدموية فيتسبّب ذلك في تلفها، ما يحفز بدوره تخثُّرا في الدم، ينتشر من الرئة إلى باقي أجزاء الجسم، وهو أحد أهم أسباب الوفاة، كانت لافتة للانتباه منذ ظهورها، خاصة وأن هناك فئات بعينها من الناس أكثر قبولا لهذا النوع من التطور بسبب مشكلات تواجهها أوعيتهم الدموية، وهي الفئات نفسها التي نعرف أنها معيار خطورة في “كوفيد-19”: المصابون بضغط الدم على سبيل المثال، والسكري، والسمنة، كما أن الرجال أكثر قابلية لهذا النوع من التلف من النساء، والمدخنون بشكل أكبر من غير المدخنين.
بعد التوصل إلى النتائج الأولية عن استخدام مضادات التجلط، اهتمت نيجري، مع رفاقها من الكلية نفسها، ماريسا دولنيكوف وباولو سالديفا، بفكرة تشريح جثث مرضى “كوفيد-19″، وكانت دراستهم في هذا النطاق هي الأولى من نوعها، ونُشرت بدورية “جورنال أوف ثرومبوزيس آند هوميوستيزيس” ().
تقول نيجري “أظهرت عمليات التشريح وجود عدد هائل من الجلطات في الأوعية الدقيقة في الرئة وأيضا في الأوعية الدقيقة للأعضاء الأخرى كالكلى والقلب والجلد وما إلى ذلك، كما تم العثور على جلطات في أوعية دموية رئيسية”، مضيفة أنه إذا لم يتم إيقاف تطور تلك الجلطات فإنها تتطور لتتسبّب في ضائقة تنفسية حادة، وتقتل المريض.
تتأكد تلك النتائج بدراسات عدة، على سبيل المثال كان فريق بحثي من مستشفى ماونت سايناي العريقة قد خرج مؤخرا بنتائج (5) تجربة تشريحية جديدة هي الأكبر إلى الآن، على 67 جثة لمتوفين بسبب “كوفيد-19″، أظهرت النتائج وجود جلطات واضحة في الرئة وأعضاء أخرى، بشكل خاص الكلى والكبد والدماغ، لكن اللافت للنظر في تلك الدراسة كان التأثيرات الدماغية.
فعلى الرغم من أن الدماغ أقل تأثرا بالالتهابات الناتجة عن “كوفيد-19″، فإنه أظهر عددا مفاجئا من الجلطات في الأوعية الدموية الصغيرة، مع وجود دلائل على موت بعض الأنسجة الدماغية بسبب انسداد الأوعية الدموية في كلٍّ من الأجزاء المحيطية والعميقة من الدماغ، الأمر الذي يمكن أن يُفسِّر بعض التغييرات النفسية التي تظهر في بعض المرضى.
بل وكانت مجموعة من الدراسات قد صدرت مؤخرا لعدة فِرَق بحثية متعددة الجنسيات، أقامت تجاربها المباشرة على أعضاء مخلّقة في المعمل، قد أشارت إلى أن فيروس كورونا المستجد -نفسه- هو ما يسافر في تيار الدم لتلك الأعضاء ويقوم بإصاباتها بشكل مباشر، وكان العلماء يعتقدون أن أثر “كوفيد-19” على أعضاء الجسم غير الرئة ليس مباشرا، بمعنى أن الفيروس يتسبّب في تلف الرئة، الأمر الذي بدوره يؤثر على الأعضاء الأخرى.
***********
“كوفيد-19” في أنسجة الكلية
تقول نيجري “تُغيِّر هذه النتائج بشكل كبير من كيفية علاج المرضى بـ “كوفيد-19″”، موضِّحة أنه سيكون من المهم البدء في منع تخثر الدم والحفاظ على رطوبة المريض على الفور مع أي علامة على نقص الأكسجين بالدم، الأمر الذي دخل بالفعل -بينما نتحدث- في الكثير من البروتوكولات العلاجية على نطاق عالمي.
ما “كوفيد-19″؟ على بساطته، لا يزال هذا السؤال علامة استفهام كبيرة. في بعض الأحيان يكون مجرد “دور برد بسيط” يأتي مع بعض الرشح أو الصداع، في أحيان أخرى يظهر في صورة طفح جلدي أو فقدان لحاستي الشم والتذوق، وقد يظهر في صورة إسهال وأعراض معوية. لكن إلى جانب ذلك فإنه قد يظهر في صورة تعطل للقلب أو الكلى أو -بالطبع- الرئتين، الآن نعرف أنه يتسبب في جلطات بالأوعية الدموية في كل الجسم وقد يقتل مريضه بسبب سكتة دماغية أو جلطة في القلب مثلا!
حينما نفحص المرضى، نجد كورونا المستجد في كل مكان بالجسم، في الحلق، الرئة، الدموع، البراز، الكلية، الكبد، البنكرياس، القلب، المخ، بل نجده في السائل الموجود حول الدماغ والحبل الشوكي! في الجانب الآخر ما زلنا لا نعرف إجابات الكثير عن الأسئلة الأساسية المتعلقة بالمرض، مثلا: ما طبيعة استجاباتنا المناعية له؟ كم عدد المصابين به؟ هل سيستمر في القدوم بشكل موسمي؟
في نهاية حديثها ، تُشير نيجري إلى أن المزيد من البحث مطلوب لنتمكّن من ترويض هذا المرض المتشعّب في كل الجسم البشري تقريبا، لحين وصول اللقاح. البروتوكولات العلاجية تتطور يوما بعد يوم مع إضافات كتلك التي قدّمتها نيجري ورفاقها، الأمر الذي خفّض من نسبة الوفيات المعلنة حول العالم بقيمة 1% كاملة بوصولنا إلى نهاية يونيو الحالي مقارنة بإبريل ، عسى أن يساعدنا ذلك يوما بعد يوم على تخطي أزمة هي الأكثر قسوة في تاريخنا منذ الحرب العالمية الثانية!